واشتداد الاتحاد، أما إذا افترقا وهزلا وزال كل شيء سوى الذكرى، فالذكرى الجامدة تأكل نفسها، وتزول لأن الأيام تمحوها، ويجب لها أن تزول لأنها وحدها حياة اليأس المريرة، وليس قلب يعيش باليأس، وليس شعب يحيا بالبكاء، وليست امة تخلد بالنواح والتقليد.
الذكرى قدسية في قدسية العمل والتطور والتقدم والارتقاء، والعاملون في امتنا هم المفكرون التقدميون، فكرهم عاطفة وعقل، إيمان وذراع، يطلبون الحركة في صميم الجاد، ويبغون السير بمركب المواطنين والإنسان، ويحرصون على معاقرة الوجود، ويسعون إلى إتراع الكأس، وتنظيم التاريخ، وتوجيه الأمة في التاريخ، وخلقه وخلقها، وإعادة المجد، وإرجاع الذكرى وتحقيق الحلم.
الكتلة السوداء
وبين هذين التيارين يشاهد السواد الجاهل، وهو المصدر الغامض، والعجلة الثقيلة، والجمهور الغافل، الأمي عن الوعي، الأكثر عدداً، والأقل عدة، الراقي رقماً، والأدنى قيمة، الضال عن العلم، والمضل بالجهل، وكان الأحرى به الرقي والتقدم والذكاء والعلم ولعل الأمة العربية حيث يسود الجهل في أوساط كثيرة منها_مع الأسف الأليم_أشبه برأس ضخم، تتجاذبه أذنان صغيرتان واعيتان، الأولى تعي ذات اليمين، والأخرى ذات اليسار، وبينهما الكتلة السوداء تسوقها دعاية، ويستفزها ضلال، وكأنها حجر صلب في منصف أنبوب، ليس يفسح للنور مجالاً، ولا للحياة نوراً، كيما ينضح ويثمر بعد أن يستفيق.
وكشف المصاب في رأينا طريقة النهضة، والنهضة الواعية الصادقة، التي هي غير ذات اليمين فحسب، وغير ذات اليسار المطلق، بل هي نهضة أمة حاجة هذه الأمة، ويقظة شعب حسب ميول هذا الشعب، ونزوة تاريخ حسب هدف هذا التاريخ، ورجوع حلم حسب فلسفة هذا الحلم، والأصل في كل ذاك أن ترتكز إلى دعامة العرب الصحيحة، ومجد العرب الصحيح، وتلك ذكرانا الأولى.
الذكرى العربية
لنفتح إذن قلب الأمة العربية ونشاهد حياة الذكرى فيه.
لقد كانت هذه الذكرى حاضراً صحيحاً، وكانت في العصر الجاهلي تمخضاً، بزغت عنه القوة العربية في النهضة الإسلامية المتحررة الواثبة، والقوية المنطلقة من قيود الجهل