والتفرقة، فكانت أمة انتهى البيان إليها، وسارت في غلاب الجهل والتفكك ركبانها، وأتيح للعرب جمع عناصر المدنية الإنسانية في توحيد جديد، ودخلت العناصر الرومية والفارسية والشرقية والإفريقية في تفاعل إنساني طريف، وامتزجت في قصور الشام أبهة الروم، وأنس الحب، ووداعة الاعتقاد مع فخر التوسع ولذة الانتصار. فكانت أمية في الطليعة، وكانت الإمبراطورية العربية
ينبوعاً لذكريات مجيدة، يخطب طارق في الغرب على جبله، ويغني عمر بن أبي ربيعه هواه، ويفتح التراجمة أسفارهم، وتتفتح أكمام الفكر العربي، فتلد العلوم تلو العلوم، وتنمو الدراسات تلو الدراسات، وتنفجر الفلسفة العربية من ينابيع الدين والعقل، فهذه حركة الفقه والتفسير، وأبحاث اللغة واللسان، وهذه حركة القصص والتاريخ والاجتماع، وهذه حركة تمازج الثقافات، يلتئم فيها النمو العلمي والنمو الأدبي والنمو الفكري في روح عربية شرقية جامعة، وينجلي ذاك عن علم بالفلسفة، وفلسفة بالعلم، وكلام فيهما وفي الدين، وهذا هو علم الكلام تلقى بذوره في الشام فتنبت أصوله في مساجد البصرة، وتزهر أغصانه في مدارس بغداد، ويأتي أكله في بلاط العباسيين، وتردد رجعة العجوز في دارها، والتاجر في حانوته، وهذا الفارابي يصنع السعادة في مدينته الصنعية الفاضلة، وهذا ابن سينا يداوي الجسم والروح، فيضع القانون ويستهدف النجاة عن طريق الإشارات والتنبيهات والشفاه. ويجرب الرازي سيمياه وكيمياه، وينظر ابن الهيثم في رياضياته ومناظره بعد أن جال البيروني في علوم الهند، ومقولاتها ومعقولاتها، ويضع الخوارزمي أسس اللوغاريتمات، ويؤلف في الجبر، وينطلق التحرر، فلا التنجيم سحر، بل علم، ولا الشعر بكاء على الأطلال، بل تجدد وانبعاث، ويتحدث عن كل ذاك إخوان في موسوعة. وهذه موسوعة إخوان الصفاء، عربية وحيدة في النوع، يقرؤها الغزالي، ويتأثر منها، ويثور عليها لأنه انتهى بالثورة على الفلسفة جميعا، وألقى في الشرق النداء الأخير، فجاء مزيجاً من العقل والنقل، ودك الفكر بسلاح الفكر، فانصرف الناس إلى الأكل قبل الفلسفة، وتحولوا من الإبداع إلى الإتباع فدهمتهم الحروب الصليبية، وعانت الأمة العربية ما عانت ولكنها صمدت صميدة بإباء، ورسمت آخر الألوان القوية في لوحة ذكرياتها المثلى، ثم نكبت بالتفرقة والانقسام وطغا جنكيز وأهلك هولاكو، واستعلى الترك من بني عثمان، حتى كانت