نفسه وليست غاية التاريخ حل المشاكل وتفادي الأخطاء وهو أن يدرس الحوادث البشرية الماضية فهو يدرس كل حادث بنفسه في شروطه الخاصة وظروفه الخاصة. ومن الخطاء أن نتخذ من الحادث الواقع في زمان معين ومكان معين درساً نحل به المستقبل ولنضرب لذلك مثلاً:
إن الاعتقاد الذي ولدته الحرب العامة الأولى ١٩١٤_١٩١٨ في نفوس الجنود المحاربين هوان هذه الحرب يجب أن تكون الأخيرة واعتقادهم هذا أدى بهم إلى التفاني مؤثرين أن يموتوا لتحيا أبناؤهم. وهم وأن تألوا وذاقوا صنوف الجوع والبرد وما تجره الحرب من بؤس فليس أحب إليهم من أن يخرجوا من ساحات الوغى وأبنائهم سالمون من التعرض لحرب ثانية تبيدهم. وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى تهيأ العالم للحرب ثانية أشد اضطهاداً للنفوس وأكثر سفحاً للدماء، وزاد الأمر شقاً اشترك في هذه الحرب العالمية الثانية جيلان من الآباء والأبناء أو قل أنها جندت ثلاث أجيال. أن هذه الحرب الأخيرة قد حطمت الآمال.
ولم تفد دراسة التاريخ الحرب الأولى في منع الثانية ولو أن دراسة التاريخ عبرة لدعت الإنسانية أن تحول دون وقوع الكارثة الكبرى.
وبعضهم يفهم أن التاريخ يلقى علينا درساً في الوطنية. قد يكون في هذا القول نوع من الصحة: أن تسرب القومية من أوربة إلى بلادنا في أواخر القرن التاسع عشر عن طريق البعثات الأجنبية كان أكبر عامل في قيام رجال الرعيل الأول في وجه الأتراك. كما أن تدريس الوحدات القومية وتنبه الشعور القومي كان من أهم الدوافع التي دعت طلابنا إلى مقاومة النفوذ الفرنسي في فترة الربع الماضي من القرن. وإن كثيراً من الأساليب التي جرى عليها الطلاب في مظاهراتهم وخطبهم وحركاتهم التحررية كانت ولاشك مقتبس إلى حد ما من دراسة التاريخ.
أما وأن التاريخ ينمي فينا الشعور القومي والواجب الوطني فهذا صحيح نسبياً ولكن يجب ألا نغالي في قيمته لأن هذا التاريخ الذي يلهب العاطفة القومية هو الذي يخفف من اشتعال الحماس الوطني ولا سيما عند الطبقة المثقفة ويولد عندها خيبة أمل يرافقها شعور بالضعف قد يؤدي إلى التخاذل والاقتناع بعدم تكافؤ القوى.