حليق ما تحت الطربوش، يجرف بأثوابه المقاعد والعيون، ويأخذ مكاناً في أعماق السيارة، حيث مركز الثقل، ثم يدلي شفتيه المتورّمتين، وينثرها أصواتاً مرتفعة عالية، وليت هدفه إعادة السكون، وإرجاع الطمأنينة إلى النفوس، غير أنّه صاح بالسائق زاجراً، وندّد به بقسوة وعنف، وطلب منه أن يقف، ويرجع به إلى الساحة، لأنّه كان يودّ السفر إلى الجنوب، والسّيارة هذه تحمله إلى الشمال، فقد أخطأ الشيخ المعصوم، وأصل خطئه التباس الأرقام عليه، وكلّمنها يشير إلى ناحية جغرافيّة معيّنة، ويدلّ على حيّ من أحياء المدينة خاص، وهو لم يألف بعد مثل ذاك.
سلاح الأرقام
والظّاهر أن الطبيعة تعجز عن مقاومة سلاح الأرقام، وأن الكون أضعف تخطّي الأرقام، فلم يبق آدم تراباً عندما هبطت في ترابه الرّوح، وأصبح مضاعفاً كالرقم اثنين، وخلق في جسمه القلب الذي ألحقت ذيول وأغصان وحبال، وخلق جهاز الهضم إلى جانب جهاز الحب وجهاز التنفس والحركة والعظام، وكأم قلب الإنسان لم يكف الإنسان، فازدواج بصراه وسمعاه وقدماه ودراعاه، وتخمّست حواسه ثم أصبحت سداسيّة الرقم أو أكثر ولم تكفّ فخلقت له حوّاء، حجماً وقيعاً، وكان من اجتماع الاثنين إنسان ثالث ورابع وخامس، حتّى بلغت الإنسانيّة أرقاماً ضخمة وضربت بالحدود القصوى، فملئت الأرض، وكان من امتلائها العمران والدمار، وازدهرت الحياة كما ازدهر الموت، وأتت الأرقام تحصي الناس عدّاً في السّلم وفي القتال، في الولادة وفي الوفاة.
رأى الله كلّ ما عمله فإذا هو حسن جدّاً، ذكراً أو أنثى خلقهم، وكان مساء أضيف إلى مساء، وكان صباح أعقبه صباح، يوماً سادساً بعد يوم خامس ورابع وثالث. . .
وهذه هي أيضاً الأرقام.
حرب ناعمة
غير أنّ للأرقام في تاريخ البشريّة وظيفة عظمى، وأثراً جدّياً هامّاً جدّاً، فهي أصل التفكير السحري الذي يشوّه عاطفة الدين، وهي أصل التفكير العلمي الذي يخالف السحر ويخالف الدين معاً، وهي أصل السياسة الإنسانيّة، وبالتالي إنها المحرّك العميق للمجتمع وللأخلاق وللتاريخ وللفن، ولم يبق سليماً إلى حدّ محدود، وقدرٍ مقدور، سوى الفلسفة من إنتاج ذكاء