كان أفلاطون أكثر حكماء الإغريق محاولةً لبلوغ هذه الحكمة الغيبية والعلمية والخلقية فكان بذلك يسعى إلى تحقيق حلم فيثاغورس الذي لم ينقطع تلاميذه أبداً عن متابعة السعي للظفر بتلك الحكمة الكاملة المطلقة.
وقد حرص أفلاطون على ألاّ يجزّأ هيكل الفلسفة الفيثاغورثيّة بالتّعرّض لأشكالها المختلفة التي طلع بها أتباع فيثاغورس ومريدوه كلٌّ على حسب مزاجه وتفكيره الخاص، لأنّ الفيلسوف الحق، برأي أفلاطون، ليس من يفاضل بين مظاهر الحكمة ويرجع شكلاً منها على شكلٍ آخر، بل الفيلسوف الحق هو الذي يتعشّق الحكمة بأجمعها وتكون ضالّته يأخذها أينما وجدها.
وما زال هذا المفهوم القديم للحكمة يتناول بالبحث والتعميق والتّعديل من قبل أولئك الرّجال الذين عمدوا بادئ الأمر، لتكوين مذهبً خاصٍّ لهم في الحياة ثمّ سعوا جهد طاقتهم لأن ينشروا مذهبهم بين الناس ويلقّنوه إلى الآخرين.
فما عسى أن تكون الحكمة على وجه التّحقيق! وما عسى أن يفيد الناس منها، إذا لم تكن، قبل كلّ شيءٍ، فنّاً من الحياة يصنعه المرء ليحيا بانسجامٍ وائتلافٍ مع كلّ ما أبدعت عقول الحكماء من الأفكار الرائعة وما حلموا به من المثل السامية؟ إنّ الحكمة لم تكن في نظرهم نتاجاً هزيلاً لعلمٍ جافٍّ عقيمٍ، ولا هي تعاليمٌ لا تنسجم مع المجتمع وتدعو إلى حياةٍ عابسةٍ من الحسرة والتّبكيت، بل كانت الحكمة، في نظر أولئك الذين أوتوا الفضل العظيم بتمتّعهم بنعمها، ينبوعاً يتفجّر في قلوب الحكماء وثماراً ناضجةً في نتاج تجاربهم وإشعاعاً سامياً من نور عقولهم. ونحن إذا تجاهلنا بأنّ الحكماء قد مرّوا بهذه البسيطة ولم يطبّقوا في حياتهم ما كانوا يدعون إليه من فلسفة وتعاليم، فإنّ كلّ ما يمكن أن يشيعوه في نفونا خلا لأجيال الطّويلة من لهب الحماسة ونعمة التأمل يتعرّض عندئذٍ لأن يتدحرج إلى هوّة العدم، ويغدوا بعد ذلك كلّ ما تمخّضت عنه الأجيال من حكمة باهتاً هزيلاً لا حياة فيه فينتج عن ذلك ضعف الوجدان وخبو نور العقل وانطفاء شعلة الرغبة في حبّ الحياة.
وعندما يفلت خيط الحكمة من يد الإنسان يفقد بذلك كلّ دليل يقوده إلى سبيل الخلاص من سجن الأهواء وقيود النّزوات، ويفقد أيضاً القدرة على معرفة نفسه وعلى السيطرة عليها