كانت الفكرة السائدة قبلاً هي أنه يجب توجيه العناية في الدراسة الابتدائية والمتوسطة إلى الثقافة العامة المشتركة التي يحتاج إليها جميع المواطنين والتي لا غنى عنها في كافة المهن والأعمال. على أننا إذا دققنا النظر نلاحظ بأن مفهوم الثقافة العامة هذا غامض، مضطرب، ومغلوط.
ماذا نعلم اليوم الناشئين في المدارس الابتدائية والمتوسطة لتجهيزهم لما يسمونه الثقافة العامة؟ مجموعة كبيرة من العلوم النظرية المجردة التي لا صلة تربط بين بعضها والآخر والتي لا علاقة لها بالحياة الحقيقية في البيئة الطبيعية والاجتماعية وإننا نعلم الناشئين اللغة والأدب - ولكن ليس كوسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار بل كعلم نظري يؤلف كتلة من التعاريف والاصطلاحات والمفاهيم ويرهق الذاكرة كذلك نعلمهم الحساب والهندسة والجبر والفيزياء والكيمياء والنباتات والحيوانات والطبقات والتشريح والتاريخ والجغرافيا والمعلومات المدنية والأخلاقية والرسم والموسيقا والأشغال اليدوية وتدبير المنزل ولكن جميعها بصورة نظرية، مجردة لفظية، آلية، بعيدة عن الحياة، منفصلة بعضها عن بعض، يقرر لهم المدرسون بعض الدساتير والحقائق في كل منها ويطلبون إليهم استظهارها دون أن يعرفوا كيف توصل العقل البشري إليها ودون أن يدركوا ما هي فائدتها وقيمتها.
هذه المعلومات المتفرقة، المتنافرة لا يمكن أن تثقف العقل ولا أن تساعد على نمو الشخصية وانكشافها. فهي لا تكون ثقافة وإنما تصبح عبثاً يعرقل التطور الفكري لدى الناشئين. وليس المثقف في العصر الحاضر من يستظهر كمية كبيرة من المعلومات المتنوعة بل هو الذي يحسن التفكير ويعرف طرائق البحث ويستطيع الإبداع ويميز بين الخطأ والصواب ويتصف بروح الدقة وملكة النقد.
إن اكتساب الثقافة الحقيقية، التي لا بد منها مع الاختصاص. لا يتم عن الطريق المتبع في مدارس اليوم وإنما يجب السير على العكس من ذلك. يجب أن يبدأ التعليم بالمسائل الجزئية التي تلائم ميول الناشئين وتثير اهتمامهم ويرغبون في معرفتها فترشدهم إلى دراستها بأنفسهم ونعودهم على الملاحظة والمقارنة والاستقراء والإنتاج والنقد. والتطور الطبيعي للعقل الإنساني إنما بالانتقال من العمل إلى الفكر فمن الضروري أن نجاري هذه الطريق