وبعد يا نفس إلى مَ تحنين؟ تعالي نحاسب الزمن ونزن الماضي! لقد أتلفت من الأيام أكثر مما بقي لي فيها! فهذا الشطر من أحسن العمر كيف قضيته؟ وهذه السنوات الطوال كم تركت في من أثر وخلفت من ذكريات؟
فتحت سفر الذاكرة لأقرأ سطورها فلم أجد سطرا. . فكأن الأيام والليالي على تعاقبها لم تخط فيها حرفا.
حياتنا كتاب لا كتابة فيه يتساوى شيخنا والطفل في محصول العمر ويختلفان في عدد سنواته. وما قيمة العدد إذ لم يكن هناك ما يعد؟ حياتنا صفحة سوداء. . نقية، لم تمسها يد فنان. . .
هذا التبلد في الحسن ما علته؟ والحذر في الأعصاب ما مبعثه؟ أهو الشرق في إشراق سمائه وتلظي حرارته، أم المجتمع في قيوده وعنعناته؟ أهي المدرسة أم الشارع، لبيت أم المقهى الكنيسة أم الجامع؟ ما السعر إلا هيجان النفس وفرحة القلب ما العمر إلا حرية تنعم بها وهناءة مستجدة تفيء إليها وتجربة تكتسبها وعاطفة تبادلها وثقافة تستمتع بها وعمل مثمر تؤديه. ما العيش والإحساس بأن الحياة جديرة بأن تحيى. فإذا فقد كل ذلك فسيان إن عشت مائة وإن مت وليداً.
حياتنا كهذا الأخدود الأبيض الذي تخطه السفينة على أديم الماء، تحسبه خالداً فلا يلبث أن يزول ويعود الماء إلى صفائه.
دود على عود
السفينة مدرسة تعلمك التواضع. هذه المدينة السابحة الضخمة ذرة صغيرة على الخضم الواسع، تتلهى بها الأمواج فتعلو وتهبط وتترنح ذات اليمين وذات الشمال، وأنت على ظهرها تنظر إلى الأفق الممتد فتشعر بأنك شيء حقير. . . إنك دود على عود.
والسفينة تعلمك أدب الاجتماع، فهي صورة مصغرة للمدينة الفاضلة، يجتمع فيها أشتات الناس من كل جنس وملة فلا يلبثون أن يتعارفوا ويتآلفوا ويتناسوا ما بينهم من فوارق وتربطهم روابط العيش معاً.
وهذا الكوكب الأرضي هو أيضاً مركب يمخر في الفضاء، فلم لا يتعارف سكانه ويتآلفوا ويتناسوا ما بينهم من فوارق؟ لم لا تصبح لهم جنسية واحدة هي (جنسية الأرض)؟ إنني