وأقول لنفسي: ليس هذا يا نفس سبيلاً رشداً ولا هو بمأمون العواقب.
ودخل علي جورج ذات مساء، وهو طالب من تشيكوسلوفاكيا ونزيل البنسيون نفسه منذ نحو شهرين، فأخذنا بأطراف الحديث ثم قص علي أنه أفاق من نومه في يومه ذاك مع أول الفجر فإذا هو يسمع صوتا خافتا دقياً هادئاً كأنه صوت باب الدار يفتحه إنسان من داخل ثم يغلقه وينطلق. وسألني ماذا أرى فيما سمع، فقلت له إنما تلك بقية رؤى علقت بين جفنه ونفسه، ولهذا أشباه فيما يحدث لي أنا بالذات!. . .
وحدث أني لقيت في الغداة صاحبتي وهي في مكانها ذاك من البهو تغزل حاجتها وإلى جوارها كلبها الذي لا يفارقها، فقلت لها إني جالب بعد ساعة فروجين وشيئا من سمن وأرز وبعضا من الخضار والحشائش والليمون من أجل التوابل ثم رجوتها أن تتلطف فتصنع لي من ذلك كله مائدة شهية للغداء نجلس إليها في الظهيرة مع صديقنا جورج، فإن اليوم يوم وقفة، وغداً عطلة العيد الأضحى، ولا بأس أن تكون هي لي في غربتي بمثابة الأهل، يوم كان لي أهل، أعني يوم كان لي أب وأخوة، وليتهم ما كانوا. . . يرحم الله الأحياء منهم دون الأموات!. . .
وجلسنا ثلاثتنا إلى طاولة لم يزنها أول الأمر سوى اللحم الطري الذي احمر بعض الشيء، ثم لم تلبث أن امتلأت على مهل بصحاف الطعام الساخن والمقبلات وأشياء أخرى يسمونها منعشات. . . وما كنت أمد يدي إلى زجاجة من تلك الزجاجات المنعشات فأصب منها إلى النصف من كأسي، وأملأ بالماء النصف الآخر، لأني ما كرهت في حياتي شيئا مثلما كرهت العرق، هذا السائل الثقيل الغليظ الذي ما يكاد الشارب يدفع بعضه في حلقه حتى يدفع وراءه لقمة من طعام أو جرعة من حوامض أو حفنة من موالح، كأنما يستر أو يمحو بذلك مذاق ما عب من شراب حاد بغيض.
وجيء لي أنا بنرجيلة، وهي عندي ألطف كأس وأحلى شراب، فجعلت أعب من دخانها، وألهو بكركرتها، واستمتع بمنظرها. وصاحباي يشربان تارة ويأكلان معي تارة أخرى. ونلغو ثلاثتنا مع ذلك بسلاسل من الكلام لا تنقطع ولا تفيد وإنما تتصل وتلذ على ضحك وابتسامات وغمزات ولمزات، ينطلق أكثره في الجو، ويمتد أثره إلى البعيد، ولا ندري من بواعثه ولا من نتائجه شيئا، فإنما المجلس مجلس شراب، والاجتماع على أنس وعلى لذة،