عليه والمتفرغين له، ونبتذلهم ونستهين بهم، وننظر إليهم كنظرتنا إلى خوجه أفندي العثمانيين، ونجعلهم يشعرون أنهم مراكز متواضعة، وأنهم من طبقة منحطة ذليلة، ونعتبر عملهم من أسهل وأيسر وأبسط الأعمال.
أيها الصديق! لم أفكر أبدا أن أكون موظفا في يوم من الأيام، لأني لا أعد الوظائف الحكومية حتى مناصبها الرفيعة غنما عظيما كما يعدها العاجزون فاخترت بادئ ذي بدء التجارة، وعملت عند أحد تجار دمشق ثلاثة أشهر لم أتعلم خلالها سوى تنظيف البلاط، ومسح الزجاج، وعرض البضائع، وترديد: هذا بخمسة وذاك بستة، وتلك بعشرة، والسعر محدود، والدين ممنوع، والعتب مرفوع، والرزق على الله. فسئمت هذا النوع من التجارة ومللته. وأخذت أبحث عن عمل آخر أكسب منه رزقي، فسدت جميع الأبواب في وجهي، إلا باب التعليم، فدخلته مكرها وبعد اجتياز مسابقة. دخلته لأتاجر في العقول والأرواح والمشاعر، دخلته لأربح نفوسا وقلوبا. ولكني لم أخلق لهذه التجارة ولم أعد إعدادا خاصا لها ولا أعرف شيئا عن خفاياها. فأخذت أخيط خيط عشواء، أحشو أذهان الطلاب بألفاظ وعبارات دون الاهتمام بمدلولاتها وبمعانيها، وأشحن أدمغتهم بقواعد جافة مجردة، وأدفعهم إلى العلم دفعا، وأكلفهم حمل ما لا طاقة لهم به، وأحملهم على إدراك ما لا تقوى عليه مداركهم من غير مراعاة لميولهم ونزعاتهم وسنهم وحالهم الصحية ومستواهم العقلي والبيئة التي يعيشون فيها، حاملا الكتاب بيميني والعصا بشمالي، مهددا بالعقاب الصارم، مرغما على إظهار الخضوع والإطاعة العمياء، داعيا إلى حفظ النظام. وهكذا أخذت أتلف العقول، وأفسد النفوس حتى ضاقت نفسي اضطرب عقلي، وأخذت أشكو من الزمن الذي رماني بهذه التجارة الفاشلة المفلسة، وأسب القدر الذي بلاني بها، مفتشا عن طريق النجاة والخلاص، إلى أن أتيح لي من ولد في نفسي حب الأطفال وتعليمهم، ومن أرشدني إلى أقوم الطريق وأحسنها، ومن دفعني إلى البحث والدرس والتنقيب والإطلاع، ومن وضع بين يدي الكتب العلمية والاجتماعية والأدبية، وكتب التربية وعلم النفس، ومن أهداني إلى المجلات المسلكية حتى أصبح تدريسي خصبا منتجا، وعملي منظما مرتبا والمناهج التي بين يدي حية مثمرة. وانقلب شقائي وعذابي إلى لذة وسعادة، وخسارتي إلى ربح، وفشلي إلى نجاح.