قضيت مدة على هذا المنوال، عشت فيها عيشة راضية، أتقاضى أجرا يلائم عملي، ويؤمن لي منزلا فخما ومأكلا شهيا وملبسا فاخرا.
والمعلم إنسان كغيره من الناس، له الحق المطلق في أن يعيش ويتزوج. أقدمت على الزواج ولم أفكر أن أقدم عليه تحسينا لحالتي المادية، ولم أطلب به مالا أدخره، أو صفقة تجارية أربحها، أو مكانا مرموقا في المجتمع أظفر به، بل حبا بالحياة المشتركة وبناء أسرة جديدة. . .
لم تدم الحياة الراضية، والنعمة السابغة طويلاً بعد الزواج، إذ أعلنت الحرب، وارتفعت الأسعار، وأثقلت الأسرة، وأصبح الراتب لا يفي ثمن خبز أفرادها.
فأخذت أبيع مما ورثته وأنفق في سبيل تربية أبنائي وبناتي وتعليمهم خيرا مما ربيت وعلمت. وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى ضاع مني كل ما أملك من حطام الدنيا. ها قد جاء دوري في الإفلاس، ولكن تجارتي في العقول والأرواح والمشاعر بقيت محافظة على ازدهارها. . وها أني أحيا حياة ثقيلة مملوءة بالظلمات والمتاعب، لا أنعم بلحظة من سرور، ولم تعد تغمرني موجة من فرح أو حبور، أعيش ولا أدري لماذا أنا عائش، ولا لماذا يبقيني الزمان. ولا أرى عندما أغفو سوى وجوه الدائنين وهم ينظرون إلي شذراً وكل منهم يلوك كلمات يحاول توجيهها. أوليس الموت أحب من الحياة؟. وما قيمة الشباب الذي يذوي ويفنى بالوجوم والحزن وذهول العقل؟. وما قيمة الشاب الذي يقضي شهرا كاملا مطأطئ الرأس منتظرا الراتب الذي يؤمن له اللقمة السوداء. أين الديموقراطية التي تكفل للناس الحياة القابلة للتطور والرقي من ناحيتها المادية ومن ناحيتها المعنوية؟ أين الديموقراطية التي لا تكتفي إذا بلغ الفرد طورا من أطوار الحياة المادية أن يقف عنده ولا يعدوه حتى يموت وتمكنه. يجوزه إلى غيره خير منه؟
كيف يراد مني أن أبعث الحياة والنشاط في نفوس أبناء الأمة، إذا كنت أقاسي شظف العيش ومرارة الحرمان!. وكيف يراد مني أن أؤتمن على التلميذ، وأحميه، وأحيطه، وأربيه، وأتعهده بالرعاية والعناية حتى يصبح رجلا نافعا لأمته ووطنه، وأولادي في البيت يئنون من شدة المرض، لا طبيب يعودهم، ولا علاج يمكن آلامهم، ولا غذاء يملأ بطونهم، ولا كساء يحميهم من شدة البرد!.