فحياتي أصبحت حياة هموم وأكدار، كلها كد وجد وإرهاق، تسير على وتيرة واحدة. فليس هناك أي تجدد أو تنوع. وإنما هو جهد يبذل دائما في غير شوق، وإرهاق يعاني في غير لذة أو بهجة. أبذل أكثر مما أنال، وآخذ أقل مما أستحق.
وقد تقول لي - أيها الصديق - ألم تر تمتع رفاق لك بالمناصب الرفيعة يجنون ما جهدت في سبيله وإياهم وأنت أنت لا تحول ولا تبدل؟
أجل! إن في هذا البلد رجالا يفهمون من الحياة النسيان والغدر والخداع، إذا ابتسم الدهر لأحدهم بنى سراعاً بينه وبين ماضيه سدا يخيل إليه أنه سد منيع، وأخذ يتلكع وراء هذا السد الصفيق، ضاربا بالذكريات والأخوة عرض الحائط، وجاعلا من حطام الصداقة سدى أثرته الكريهة ولحمة نفعيته المقيتة. وهؤلاء هم أقسى الناس قلبا، وأعظمهم كيدا، وأكثرهم دهاء ومكرا، يبطنون ما لا يظهرون، ويظهرون ما لا يبطنون، لا يقلقهم بؤس البائسين، ولا تزعجهم نكبات المنكوبين.
* * *
أيها الصديق! هذا حالي، وما آل إليه أمري من فقر وبؤس وشقاء وعذاب بعد قضاء عشرين سنة في مهنة التعليم!. .
أجل إن التعليم صناعة شريفة، وفن جميل، به نصنع النفوس، ونزين الأرواح غير أن المعلم إنسان لا يقدر أن يحيا دونما يأكل، ولا يستطيع العيش من الماء النقي والهواء الطلق، إن للمعلم حاجات يكتفي بالأقل القليل منها، ولا بد من إقامة عوزه وإرضاء رغباته الأساسية الأولى، وإذا كانت هذه هي الحقيقة المرة، فالخير كل الخير في مجابهتها وعلاجها، ذلك لأن التعليم - في وضعه الحالي على الأقل - عمل مضن شاق، لا يجد فيه صاحبه ما يسد به رمقه، فأشفق على ابنك وارحمه من هذا المصير المحزن أو اختر له ما يحلو. .