ولهذا خفيت معانيه على أكثر من روى شعره من أكابر الفضلاء والأئمة العلماء حتى الفحول منهم والنجباء كالقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب الوساطة وأبي الفتح عثمان بن جنى النحوي وأبي العلاء المعري وأبي علي بن فورجة البروجردي رحمهم الله تعالى وهؤلاء كانوا من فحول العلماء وتكلموا في معاني شعره مما اخترعه وانفرد بالإغراب فيه وأبدعه وأصابوا في كثير من ذلك وخفى عليهم بعضه فلم يكن لهم غرضه المقصود لبعد مرماه وامتداد مداه أما القاضي أبو الحسن فإنه ادعى التوسط بين صاغية المتنبي ومحبيه وبين المناصبين له ممن يعاديه فذكر أن قوماً مالوا إليه حتى فضلوه في الشعر على جميع أهل زمانه وقضوا له بالتبريز على أقرانه وقوما لم يعدوه من الشعراء وأزروا بشعره غاية الازراء حتى قالوا أنه لا ينطق إلا البهراء ولا يتكلم إلا بالكلمة العوراء ومعانيه كلها مسروقة أو عور والفاظه ظلمات وديجور فتوسط بين الخصمين وذكر الحق بين القولين وأما ابن جنى فإنه من الكبار في صنعة الإعراب والتصريف والمحسنين في كل واحد منهما والتصنيف غير أنه إذا تكلم في المعاني تبلد حماره ولج به عثاره ولقد استهدف في كتاب السفر غرضا للمطاعن ونهزة للعامز والطاعن إذ حشاه بالشواهد والكثيرة التي لا حاجة له إليها في ذلك الكتاب والمسائل الدقيقة المستغنى عنها في صنعة الإعراب ومن حق المنصف أن يكون كلامه مقصورا على المقصود بكتابه وما يتعلق به من أسبابه غير عادل إلى ما لا يحتاج إليه ولا يعرج عليه ثم إذا انتهى به الكلام إلى بيان المعاني عاد طويل لاكمه قصيرا وأتى بالمحال هراءً وتقصيراً وأما ابن فورجة فإنه كتب مجلدين لطيفين على شرح معاني هذا الديوان سمى أحدهما التجني على ابن جنى والآخر الفتح على أبي الفتح أفاد بالكثير منهما عائصا على الدرر وفائزاً بالغرر ثم لم يخل من ضعف البنية البشرية والسهو الذي قل ما يخلو عنه أحد من البرية ولقد تصفحت كتابيه وأعلمت على مواضع الزلل ومع شغف الناس واجماع اكثر أهل البلدان على تعمل هذا الديوان لم يقع له شرح شافٍ يفتح الغلق ويسيغ الشرق ولا بيان عن معانيه كاشف الأستار حتى يوضعها للأسماع والأبصار فتصديت بما رزقني الله تعالى من العلم ويسره لي من الفهم لإفادة من قصد تعلم هذا الديوان وأراد الوقوف على مودعه من المعاني بتصنيف كتاب يسلم من التوصيل وذكر ما يستغنى عنه من الكثير بالقليل مشتمل على البيان والايضاح مبتسم عن الغرر والاوضاح يخرج من تأمله عن ظلم التخمين إلى نور اليقين ويقف به على المغزى المقصود والمرمى المطلوب حتى يغنيه عن هموسات المؤدبين ووساوس المبطلين وانتحال المتشبعين وكذب المدعين الذين تفضحهم شواهد الاختبار عند التحقيق والاعتبار وقدما سعيت في علم هذا الشعر سعى المجد سالكا للجدد وسبقت فيه غيري سبق الجواد إذا استولى على الأمد حتى سهلت لي حزونه وسمحت فنونه وذلت لي أبكاره وعونه وزال العمى فانهتك لي غطاء حقائقه وانشرح ما استبهم على غيري من دقائقه فنطقت فيه مبينا على إصابة ولم أجمجم القول موريا في إرابة والله تعالى المسؤول حسن التوفيق في إتمامه وإسباغ ما بدانا به من فضله وانعامه.
ولد أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي بالكوفة في كندة في سنة ثلاث وثلثمائة ونشأ بالشم والبادية وقال الشعر صبياً فمن أول قوله في الصبا
أبلى الهوى أسفا يوم النوى بدني ... وفرق الهجر بين الجفن والوسنِ
يقال بَلِيَ الثوب يبلى بِلًى وبلاءً وأبلاه غيره يبليه ابلاءً والاسف شدة الحزن يقال أسف يأسف أسفاً فهو آسف وأسف ومعنى ابلاءً يشتد عند الفراق والهوى عذب مع الوصال سمّ مع الفراق كما قال السريّ الرفاء، وارى الصبابةَ أريةً ما لم يشب، يوماً حلاوتها الفراقُ بصبابه، وانتصب أسفا على المصدر ودل على فعل ما تقدمه لأن ابلاءً الهوى بدنه يدل على أسفه كأنه قال أسفت أسفا ومثله كثير في التنزيل كقوله تعالى صنع الله الذي أتقن كل شيءٍ ويوم النوى ظرف للابلاء ويجوز أن يكون معمول المصدر الذي هو أسفا والمعنى يقول أدى الهوى بدني إلى الأسف والهزال يوم الفراق وعبد هجر الحبيب بين جفني والنوم أي لم أجد بعده نوماً.
روح تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبنِ