قال ابن جنى إذا كنتم تؤثرون شم الروح في الدنيا وملاقاة نسيمها فلا زلت روضةً وقبولاً أجتذابا إلى هواكم ومصيرا إلى ما تؤثرونه فيكون سبب الدنو منكم وأراد لا برحت روضةً وقبولا فجعل الأسم نكرةً والخبر معرفةً لأجل القافية انتهى كلامه ومن يفسر هذا البيت مثل هذا التفسير فقد فضح نفسه وغر غيره وقال ابن فورجة الروح يؤثره من يأوى إلى هم وينطوي على شوق وأما المحبوب وإن كان إيثار الروح طبعا من الناس فإنهم لا يوصفون بطلب بطلب الروح وتشمم النسيم والتعرض لبرد الريح والتشفي بنسيم الهوى وأيضا فما الحاجة إلى أن يكون الأسم نكرةً والخبر معرفةً في قوله برحتني روضة وقبول وبرح ههنا ليس أخت كان التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر وإنما هي من برح فلان من مكانه أي فارقه يقول إذا لم يكن لي من فراقكم راحة إلا التعلل بالنسيم وطلب روح الهوى وتشممي لطيبه بروائحكم وما كان ينالني أيام اللهو من الفرح بقربكم فلا فارقتني روضةٌ وقبولٌ تشوق إلى روائح تلك الروضة وهذا من قول البحتري، تذكرنا ريا الأحبة كلما، تنفس في جنح من الليل باردِ، وأصله من قول الأول، إذا هب علوي الرياح وجدتني، كأني لعلوي الرياح نسيبُ، وقد أحسن وأجاد في هذا التفسير وتلخيصه أنه يقول إذا كان شم الرائحة الطيبة والتنسم بها أدنى إليكم لأنها تذكرني روائحكم وطيب أيام وصالكم فلا فارقتني روضةٌ أستنشق روائحها وريح قبول اتنسم بها لأكون أبدا على ذكركم.
وما شرقي بالماء إلا تذكراً ... لماء به أهل الحبيب نزولُ
أراد متذكرا فأقام المصدر مقام الحال كقوله تعالى أن أصبح ماؤكم غورا ويجوز أن يكون مفعولا له كقولك جئتك ابتغاء الخير والمعنى أني كلما شربت الماء شرقت به لأني أذكر ذلك الماء الذي هم نزولٌ به ولا يسوغ لي الماء.
يحرمهُ لمع الأسنة فوقهُ ... فليس لظمآنٍ إليه وصولُ
يريد أن ذلك الماء منيعٌ بالرماح لا وصول إليه لعطشانٍ وعني بعزة الماء عزة أهله وحبيبه فيما بينهم أي فلا أقدر على اتيانه وزيارته.
أما في النجوم السائرات وغيرها ... لعيني على ضوء الصباح دليلُ
استطال ليله فقال أما شيء يدلني على ضوء الصبح من نجم وغيره فاستروح إليه من طول الليل وظلمته
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي ... فتظهر فيه رقةٌ ونحولُ
يعني أن من رآها عشقها فينحل ويرق من عشقها فيقول أما رآك هذا الليل حتى يخف وتقل اجزاؤه فينكشف عنا وينحسر
لقيت بدرب القلةِ الفجر لقيةً ... شفت كمدي والليلُ فيه قتيلُ
يريد أن الليل أنقضى وبدت تباشر الصبح وقد وافى هذا المكان فشفى لقاء الصبح كمده والليل قتيل في الفجر لأنه ينقض بطلوعه وقد أخذ بعضهم هذا المعنى وكشف عنه فقال، ولما رأيت الصبح قد سل سيفه، وولى انهزاما ليله وكواكبهُ، ولاح احمرارٌ قلت قد ذبح الدجى، وهذا دمٌ قد ضمخ الأرض ساكبه،
ويوماً كأن الحسن فيه علامةٌ ... بعثت بها والشمسُ منك رسولُ
استحسن اليوم لما كان قبله من استبشاعه الليل وأضاف حسنه إلى الحبيبة يقول كأنك بعثت من حسنك علامةً على يد الشمس لأنها لما طلعت الشمس حسن اليوم وكأن الشمس جاءت بحسنه والحبيبة بعثت ذلك الحسن
وما قبل سيف الدولة اتار عاشقٌ ... ولا طلبت عند الظلام ذحولُ
أتار افتعل من الثأر وأصله الهمز أثأر يتئر اثئارا إذا أدرك الثأر قال ابن جنى يقول لولا سيف الدولة لما وصلت إلى درب القلة حتى شفيت نفسي من الليل بملاقاة الفجر قال ابن فورجة هذه الابيات من محاسن هذه القصيدة وإذا توبع فيها أبو الفتح ضاعت وبطلت افترى أبا الطيب لولا سيف الدولة لما اصبح ليله ولما لقي الفجر ولو لم يصل إلى درب القلة لما شفى عشقه واي فائدة للعاشق في الوصول إلى درب القلة وقد خلط أبو الطيب في هذه الأبيات تشبيبا بتقريظ وغرضه أن يصف يوم ظفر سيف الدولة بالحسن والطيب ويذكر سوء صنيع الليل عنده فيما مضى وأراد بقوله والليل فيه قتيل حمرة الشفق وأنه كدم على صدر نحير ولما لقيه كذلك شمت به لطول ما قاسى من همه وجعل حسن اليوم وهو ظفر سيف الدولة لسروره أنه قتل الليل واتار لأبي الطيب على ما جرت به العادة من نسبة الغرائب إلى الممدوحين وإن كانت من المحال يدل على هذا قوله
ولكنه يأتي بكل غريبةٍ ... تروق على استغرابها وتهولُ