الجلل من الاضداد يقع على الكبير والصغير ويريد به ههنا الأمر العظيم والتبريح الشدة والأغن الذي في صوته غنة ويوصف بها الظباء كما قال، وما سعاد غداة البين إذ رحلت، إلا أغن غضيض الطرف مكحول، وقوله فليك التبريح حذف النون لسكونها وسكون التاء الأولى من التبريح وليس حذفها هنا كحذفها من قوله، لم يكن شيء يا آلهي قبلكا، لأنها ضارعت بالمخرج والسكون والغنة حروف المد فحذفت كما يحذفن وهي في فليكن التبريح قويةٌ بالحركة لأن سبيلها أن تحركت فكان ينبغي أن لا يحذفها لكنه لم يعتد بالحركة في النون لما كانت غير لازمة ضرورة ومثله، لم يك الحق سوى أن هاجه، رسمُ دارٍ قد تعفت بالسرر ومن أبيات الكتاب، فلست بآتيه ولا أستطيعه، ولك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل، وإذا جاز حذف النون من ولكن مع أنه حذفت منه نون أخرى كان جائزا حذفها من فليك التبريح وفيه قبح من وجه آخر وهو أنه حذف النون مع الإدغام وهذا لا يعرف لأن من قال في بنى الحارث بلحارث لم يقل في بنى النجار بنجار إلا أن يكون المتنبي حذف النون من قبل ثم جاء بالمدغم بعد ومعنى البيت إذا كان أحد في شدة فليكن كما أنا عليه تعظيما لما هو فيه وتم الكلام ثم استأنف كلاما آخر في المصارع الثاني فقال أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح وهو استفهام معناه الإنكار يريد أن الرشأ الذي يهواه أنسيٌّ لا وحشيٌّ يغذي بالشيخ والمصراعان كالبيتين لذلك أفرد كل واحد بمعنى وهذا قول ابن جنى في انفراد كل واحد من المصراعين بمعنى وقال أصحاب المعاني مثل هذا قد يفعله الشاعر في النسيب خاصة ليدل به على ولهه وشغله عن تقويم خطابه كما قال جران العود، يوم ارتحلت برحلي قبل برذعتي، والعقل متلهٌ والقلب مشغول، ثم انصرفت إلى نصوى لأبعثه، إثر الحدوج الغوادي وهو معقول، يريد أنه لشغل قلبه لم يدر كيف يرحل ولم يدر أنه معقول فكان يبعثه ليقوم وفي كلامه ما هو أدل على ولهه مما ذكر من حاله وهو قوله ارتحلت ثم انصرفت إلى نضوى كيف ارتحله ولم يأته وإن كان أتاه فكيف قال ثم انصرفت إليه وعلى مثل هذا يحمل قول زهير، قف بالديار التي لم يعفها القدم، ثم قال، بلى وغيرها الأرواح والديم، وقال القاضي بين المصارعين اتصال لطيف وهو أنه لما خبر عن عظيم تبريحه بين أن الذي اورثه ذلك هو الرشأ الذي شكله عليه شبه الغزلان في غذائه وزاده ابن فورجة بيانا فقال يريد ما غذاء هذا الرشأ إلا القلب وأبدان العشاق يهزلها ويمرضها ويبرح بها وقد صرح بعض المحدثين بهذا المعنى فقال، يرعى القلوب وترتعي الغلازن بروقةً وشيحه، وكان المتنبي يقول ليكن تبريح الهوى عظيما مثل ما حل بين أتظنون غذاء من فعل بني هذا الفعل الشيح ما غذاؤه إلا قلوب العشاق
لعبت بمشيته الشمول وغادرت ... صنماً من الأصنام لولا الروح
يقول غيرت الخمر مشيته فتمايل فيها كمشية السكران وزادت في حسنه حتى تركته كأنه صنم لولا أنه ذو روح ويروى وجردت أي جردته من شبه الناس حتى أشبه الصنم
ما بالهُ لا حظته فتضرجت ... وجناته وفؤادي المجروح
تضرجت أي احمرت خجلا وأصله من انضرج الشيء إذا انشق كأنه قد انشق جلده فظهر الدم يقول فؤادي هو المجروح بنظري إليه فما بال وجناته ترجت بالدم
[ورما وما رمتا يداه فصابني ... سهم يعذب والسهام تريح]
يقول رماني بلحظه ولم يرمني بيديه وكان ينبغي أن يقول وما رمت يداه ولكنه على لغة من يقول قاما أخواك فالمعنى أن سهم لحظه يعذب والسهام المعروفة تقتل فتريح
[قرب المزار ولا مزار وإنما ... يغدو الجنان فلتقي ويروح]
يقول قرب بيننا المزار ولا مزار على الحقيقة لانا نلتقي بالقلوب لا بالأجسام واراد يغدو قلبي ويروح أي يتذكره فيتصور في قلبي فكأنا قد التقينا كما قال ابن المعتز، إنا على البعاد والتفرق، لنلتقي بالذكر إن لم نلتق، وكما قال روبة، إني وإن لم ترني كأنني، أراك بالغيب وإن لمترني، ومثله لأبي الطيب، لنا ولأهله أبداً قلوبٌ، تلاقي في جسومٍ ما تلاقي،
وفشت سرائرنا إليك وشفنا ... تعريضنا فبدا لك التصريح