هذا من قول البحتري، فلو أنَّ الجبالَ فقدنَ ألفاً، لأوشك جامدٌ منها يذوبُ،
بما جنبي التي خاض طيفها ... إلى الدياجي والخليون هجٌ
الدياجي جمع ديجوج وكان القياس دياجيج ولكنهم خففوا الكلمة بحذف الجيم الاخيرة كما قالوا مكوكٌ ومكاكي والخليُّ الذي يخلو قلبه من الهوى والهم يقول أفدى بقلبي المرأة التي أتاني خيالُها في ظلام الليل فقطع الظلمة إليّ والذين خلوا من الحبّ كانوا نياما وهذا كالمتضادّ لأنه أيضا كان نائما حتى رأى خيالها لكنّه يجوز أن يكون نومه نعسةً رأى خيالها في تلك النسعة وغيرُه ممّن خلا نام جميع ليلته
أتت زائراً ما خامرَ الطيبُ ثوبها ... وكالمسكِ من أردانها يتضوعُ
زائراً نعت لمحذوفٍ تقديره أتت خيالا زائراً ما خالط الطيب ثوبها لأنها لم تتعطر وكالمسك أي كرائحة المسك ينفح من ثيابها لأنها طيبة الرائحة طبعا وهذا من كلام امرء القيس، ألم ترياني كلَّما جئتُ طارقا، وجدتُ بها طيباً وإنْ لم تطيبِ.
فما جلستْ حتى أنثنتْ توسِعُ الخطا ... كفاطِمَةٍ عن درها قبلَ ترضِعُ
فشردَ إعظامي لها ما أتَى بها ... من النومِ والتاعَ الفؤادُ المفتجُ
يقول لمّا رأيت خيالها استعظمت رؤيتها فنفى ذلك نومي الذي أتى بها واحترق قلبي لفقد رؤيتها والتأنيث في لها وبها للحبيبة ويقال اعظمته واستعظمته واكبرته واستكبرته والتاع احترق واللوعة الحرقة
فيا ليلةً ما كان أطولَ بتُّها ... وسمُّ الأفاعي عذبُ ما أتجرعُ
أراد ما كان اطولها فحذف المضمر لاقامة الوزن وذلك يجوز في الشعر يقول كان اطول تلك الليلة التي فارقني فيها خيالها فتجرعت من مرارة فراقها ما كان السمّ بالاضافة إليه عذبا
تذلل لها واخضع على القربِ والنوى ... فما عاشقٌ من لا يذلُّ ويخضعُ
يقول أرض بما تحكم منقاداً مطيعا لها والخضوع في القرب الطاعة والانقياد وفي البعد الرضا والتسليم لفعلها وذلك علامة المحب كما قال الحكمي، يا كثير النوحِ في الدمنِ، لا عيها بل على السكنِ، سنةُ العشاقِ واحدةٌ، فإذا أحببتَ فاستكنِ، وكقول الآخر، كن إذا أحببت عبداً، للذي تهوى مطيعا، لن تنال الوصل حتى، تلزمَ النفسَ الخضوعا، وقريب من هذا قول العباس بن الأحنف، تحمل عظيم الذنب ممن تحبه، وإن كنتَ مظلوماً فقل أنا ظالمُ، فإنك إن لم تحملِ الذنبَ في الهوى، يفارقك من تهوى وأنفك راغمِ،
ولا ثوبَ مجدٍ غير ثوبِ ابن أحمدٍ ... على أحدٍ إلاّ بلؤمٍ مرقع
روى ابن جنى يرقع يقول لم يخلص المجد لغيره إنما خلص له ومجد غيره مشوبٌ باللؤم مجده خالص من الذمّ والغيب ومن روى ولا ثوبُ بالرفع فلانه عطف على قوله فما عاشق
وإن الذي حابى جديلة طيىءٍ ... به الله يعطى من يشاءُ ويمنعُ
جديلة رهط الممدوح من طيىءِ والنسبة إليهم جدلي وجميع من فسر شعره قالوا حابى بمعنى حبا من الحباء وهي العطية يقول الذي اعطى بني جديلة هذا الممدوح فجعله منهم هو الله تعالى يعطي من يشاء ويمنع من يشاءُ وابن جنى يجعل يعطي من يشاءُ من صفة الممدوح وحابى لا يكون بمعنى حبا ولا يقال حاباه بكذا إذا اعطاه ومعنى البيت الذي حابى بني جديلة أي غالبهم وباهاهم في العطاء يعني الممدوح به الله يعطي من يشاءُ ويمنع لأنه ملكُ قد فوض الله تعالى إليه أمر الخلق في النفع والضر فقوله به الله خبر أن
بذي كرمٍ ما مرَّ يومٌ وشمسُهُ ... على رأسِ أوفى ذمةٍ منه تطلعُ
بذي كرم بدل من قوله به يقول لم يمر يومٌ وشمسُ ذلك اليوم تطلع على رأس أوفى بالذمم من هذا الممدوح يشير إلى أنه أكثر الناس وفاءً وأكثرهم عهدا
فأرحامُ شعرٍ يتصلنَ لدنه ... وارحامُ مالٍ لا تنى تتقطعُ