والرغبة في المذاكرة للعلم وإثارة الفائدة، والاقتباس ممن دونه مما لعله لم يكن أتقنه".
ولقد عانى الشيخ قاسم رحمه الله الفقر والفاقة، ولكنه تغلب على ذلك بصبره واحتسابه، على عادة العلماء الصلحاء. . فعاش كريمًا مبتعدًا عن حياة الذل ودناءة التزلّف، رافضًا الاعتماد على الهبات والصدقات، وربما تفقده الأعيان من الملوك والأمراء ونحوهم، فلا يدبّر نفسه في الارتفاق بذلك بل يسارع إلى إنفاقه ثم يعود لحالته، وهكذا مع كثرة عياله وتكرر تزويجه. كل ذلك، مع همّة نادرة في طلب العلم ومدارسة أهله، والاشتغال بالتصنيف والتأليف.
ولقد اشتهر الشيخ رحمه الله بالمناضلة عن ابن عربي ونحوه مع حسن عقيدته، كما يقول السخاوي، وكان قد حدث في أواخر سني حياته انشقاقٌ بين العلماء بسبب ابن الفارض الشاعر المتصوف المشهور، وذلك لاختلافهم في فهم بعض الأبيات الشعرية من قصيدته التائية، وكثرت بينهم المحاجة والمناظرة، فمنهم من أخذ بظاهر قوله ونسبه إلى الحلول والاتحاد، وحكم بفسقه وكفره، ومنهم من لم يأخذ بظاهر القول وتأول كلام الشيخ ولم ينسبه إلى فسق أو قول بالحلول، بل حكم بإيمانه الثابت الراسخ (١).
وقد اشتد الأمر بين الشيخ قاسم ومخالفيه ممن يرون كفر ابن الفارض، حتى تعرّض برهان الدين البقاعي لشيخه - ابن قطلوبغا - بالإساءة، وبالغ في أذيّته،
(١) جاء في كتاب: "عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي" تأليف: محمود رزق سليم، تحت عنوان: (إنشقاق بين العلماء بسبب ابن الفارض سنة ٨٧٥ هـ)، المجلد الثاني ص ٤١٣ ما يلي: "ولما طال الأمر وبلغ مسامع السلطان قايِتْباي، أمر كاتب السر - ابن مزهر - أن يكتب سؤالا في الموضوع يوجّهه إلى الشيخ زكريا الأنصاري، فأجاب شيخ الإسلام على الاستفتاء بعد تمنّع شديد بما يلي: "يحمل كلام هذا العارف - رحمة الله عليه ونفع ببركاته - على اصطلاح أهل طريقته، بل هو ظاهر فيه عندهم، إذ اللفظ المصطلح عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي، مجاز في غيره كما هو مقرر في محله، ولا ينظر إلى ما يوهمه تعبيره في أبيات في التائية من القول بالحلول والاتحاد، فإنه ليس من ذلك في شيء بقرينتَي: حاله ومقاله. ." إلى آخر كلامه الذي كان سببًا في ركود ريح الخلاف وسكون الفتنة والحمد لله رب العالمين. ولكن الغريب جدًا؛ أن مؤلف "عصر سلاطين المماليك" في المجلد السادس ص ٤٧، نسب ابن قطلوبغا إلى القول بالاتحاد! محيلًا في الهامش على ترجمته في "الضوء اللامع"؛ مع أن الإمام السخاوي لم يزد فيه على أن قال: "واشتهر بالمناضلة عن ابن عربي ونحوه مع حسن عقيدته" كما مر. (انظر الضوء اللامع ٦/ ١٨٨).