للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن هنا فقد وجد اختلاف بين الأئمة المصحّحين، أهل التخريج والترجيح، في تعيين القول الأصح المعتمد من بين الأقوال أو الروايات.

وكان على الفقيه المفتي إذا أراد الاعتماد على أحد تلك التصحيحات المختلفة، أن يرجع - أولًا - إلى النقل والرواية ليتثبت مما صحّت نسبته إلى أصحاب المذهب من غيره، ولا يتيسر له طريق هذا، إلا باتباع نقول من تقدم من الأقدمين الأفذاذ ممن شهد لهم أهل العلم بالرواية والدراية. يقول الإمام البيضاوي الشافعي رحمه الله: "لا بد للفقيه أن يعلم آراء المجتهدين وأقاويل المتقدمين - رضي الله عنهم -؛ لأنَّه إن كان مقلدًا فلا يتأتى له التقليد قبل أن يقف على ما هو مذهب مَن يقلده، وإن كان مجتهدًا فلا بد أن يعرف مخالفتهم وموافقتهم حتى لا يخالف جماعتهم ولا طريق له سوى النقل والرواية" (١).

وإن معرفة القول الصحيح والراجح في المذهب، هو من أهم ما يعنى به المقلد، وخاصة من تصدر منهم للفتوى أو القضاء، حتى لا يعمل بالمرجوح في مقابلة الراجح اتباعًا للهوى.

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف. . وتعارض الفتويَين عليه كتعارض الدليلين على المجتهد، فكما أن المجتهد لا يجوز في حقِّه اتباع الدليلين معًا، ولا اتباع أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح، كذلك لا يجوز للعامي اتباع المفتيين معًا ولا أحدهما من غير اجتهاد ولا ترجيح. . ومتى خيرنا المقلِّدِين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة.

ويقول: إن فائدة وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، وتخييره بين القولين نقض لذلك الأصل. . يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (٢)، وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان، فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول. . " اهـ (٣).

فإذا كان معرفة القول الصحيح الراجح في المذهب أمرًا بالغ الأهمية، ولا


(١) "الغاية القصوى في دراية الفتوى" ١/ ١٨٤.
(٢) سورة النساء، الآية ٥٩.
(٣) "الموافقات" ٤/ ٤٩٨ - ٥٠١، (باختصار).

<<  <   >  >>