بالناس، وما ظهر عليه التعامل، وما قوي وجهه، ولا يخلو الوجود ممّن يميز هذا حقيقة لا ظنًّا بنفسه، فيرجع من لم يميز لمن يميز لبراءة ذمته".
ونقل رحمه الله عن الكاساني (-٥٨٧ هـ) فيما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد أو لم يحفظ أقاويل الأصحاب، قال: "عمل بقول أهل الفقه في بلده من أصحابنا، وإن لم يكن في البلد إلا فقيه واحد من أصحابنا يسعه أن يأخذ بقوله" (١).
إذًا، على المقلد أن يأخذ بقول أبي حنيفة إذا وردت عنه رواية، إلا في مسائل قليلة اختاروا فيها قول غيره لتغير العرف. . وكذا يأخذ المقلد بقول المشايخ والمجتهدين في المذهب في النوازل والواقعات التي لم يرد فيها رواية عمّن سبقهم.
ومن تتبّع قواعد الترجيح في المذهب لا يجد خلافًا بين العلماء حول هذه القواعد، إلا في زيادة بعض التفاصيل، مثل أن يقدم قول أبي يوسف، ثم قول محمد ثم قول زفر ثم قول الحسن بن زياد. .
ولكن الملاحظ أن الاختلاف في مناهج الترجيح قد بدأ من المرحلة التي تلي ما ذُكر، أي إذا ما اختلف المشايخ والفقهاء المجتهدون حول المفتى به في المسائل المستجدة، هل يؤخذ فيها بقول الأكثر، أم يقدم قول الأعلم، أم العبرة بصيغ التصحيح وعبارات المصحّحين، فيقدم الذي وزنه على أفعل التفضيل، أم إنّ الذي يقابله هو الأولى بالترجيح؟. .
لقد ظهر لي أسلوبان في ذلك، أو منهجان أساسيان، ويمكن القول بأن الأول منهما هو "منهج السابقين"، والثاني "منهج المتأخرين". وكان أبرز من تكلم على الأول، هو العلامة الشيخ قاسم بن قطلوبغا في هذا الكتاب؛ وأما من عبّر عن منهج المتأخرين فهو العلامة المحقق محمد بن عابدين، في رسالته في رسم المفتي.
فمن يطالع كتاب "التصحيح والترجيح" هذا لن يجد فيه شيئًا من التمييز بين طبقات الفقهاء بعد عصر الإمام وصاحبيه، كما أن المصنف لم يلتفت إلى التدقيق بين عبارات التصحيح، فيقدم بعض الصيغ والألفاظ على البعض الآخر، بل جعل تصحيح مسألة ما، من قِبَل مجتهد في المذهب، كافيًا لأخذ المقلّد بها، سواء كان التصحيح بعبارة: هو الصحيح، أو: الأصح، أو كان ترجيحًا بألفاظ أخرى كـ: عليه
(١) انظر مقدمة المصنف ص ١٢٨، و"بدائع الصنائع" للكاساني ٧/ ٤، ٥ والعبارة فيه: "من أصحابنا من قال: يسعه أن يأخذ بقوله".