للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

/إن قيل: إن لفظة «بين» الظرفية تقتضى اثنين فصاعدا، كقولك:

جلست بين الرجلين، وبين الرجال، وبين زيد ومحمد، ومحال أن تقول: جلست بين زيد، فتقتصر على واحد، فكيف جاء فى التنزيل: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً} (١) و «ذلك» إنما يشار به إلى الواحد، وكان حقّ الكلام: بين ذينك، وكذلك قوله: {لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ} (٢).

فالجواب: أن هذا إنما جاز، لأنهم قد يشيرون ب‍ «ذلك» إلى الجمل والحديث الطويل المشتمل على كلم كثيرة، كقولك لمن قال: زيد منطلق، وقد خرج محمد، وسينطلق جعفر: قد عرفت ذلك، ومثله فى التنزيل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ} (٣) ونظير هذا فى التنزيل أيضا {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} (٤) وجاز هذا لأن «أحدا» موضوع للعموم، فلهذا لا يستعمل إلاّ فى النفى، تقول: ما جاءنى أحد، ولا يجوز: جاءنى أحد، ولو قلت: لا أفرّق بين واحد منهم، لم يجز.

وممّا جاء فى الشّعر نظيرا لقوله: {وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً} وقوله: {عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ} قول ابن الدّمينة (٥):

عدمتك من نفس فأنت سقبتنى ... بكأس الهوى في حبّ من لم يبالك

ومنّيتنى لقيان من لست لاقيا ... نهارى ولا ليلى ولا بين ذلك

أى: ولا بين الليل والنهار، أراد بالوقت الذى بين الليل والنهار، الظلّ الذى


(١) سورة الفرقان ٦٧، وقد عالج ابن الشجرى مسألة «بين» هذه فى المجلس الثالث عشر.
(٢) سورة البقرة ٦٨.
(٣) سورة آل عمران ١١٢.
(٤) سورة البقرة ١٣٦، وسورة آل عمران ٨٤.
(٥) ديوانه ص ١٥، وتخريجه فى ٢١٧،٢١٨.