تعالى، متوقفًا على جمعيته، بإقباله بالكلية على الله تعالى، فإن شَعث القلب لا يلمه إلاَّ الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، مما يزيده شعثًا، ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه، ويعوقه، ويوقفه، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يُذْهب فضول الطعام والشراب، واستفراغ القلب من أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى، وشرعيته بقدر المصلحة؛ بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة والانقطاع والانشغال به وحده سبحانه وتعالى، ويصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل عموم القلب، وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم به كله، والخطرات كلها بذكره، والفكرة في تحصيل مراضيه منه، فيصير أنسه بالله، بدلًا من أنسه بالخلق، وبعده بذلك، لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له سواه، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
وذكر الاعتكاف بعد الصيام لمناسبتين:
الأولى: أنَّ جملة الكلام على الصيام يتناول صيام شهر رمضان، وهو الشهر الذي يتأكد استحباب الاعتكاف فيه؛ لما يرجا فيه من ليلة القدر.
الثانية: اتفاق العلماء على مشروعية الصيام مع الاعتكاف؛ لأنَّ تمام قطع العلائق عن الدنيا يكون بالصيام، والبعد عن الشهوات والعادات.
واشترط الحنفية والمالكية لصحة الاعتكاف الصيام، ولكن رأى غيرهم من العلماء أنَّه لا دليل لهم، إلاَّ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- لم يعتكف إلاَّ صائمًا، والفعل المجرد لا يكون دالاًّ على الشرطية. وقد اعتكف في شوال ولم ينقل أنَّه صام أيام اعتكافه.