إن هذه الفتن جارية ما جرت الأنهار، ودائمة مادام الليل والنهار، وهي بين سنن كونية باقية، وسنن شرعية ماضية، تتنوع بتنوع مقاصدها، وتختلف باختلاف مواقعها، فلكل قوم فتنة، ولكل امرئ فتنة، فلا يخلو عصر من فتن، ولا ينجو مصر من محن.
وهكذا مضت فتن كثيرة في عصور ما قبلنا لا يحصيها إلا الله، لاختبار العباد، وامتحان أعمالهم، فلم ينجو قوم منها، حتى الصحابة رضوان الله عليهم، فقد وقع في عهدهم فتن كثيرة، منها: فتنة تهمة عائشة، وفتنة علي ومعاوية - رضي الله عنهم - أجمعين، تحقيقاً لقوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: (٣١)].
وكذلك سنة الله في كل قوم وعصر، ومع كل امرئ ومصر، ليبتلي الله عباده، فيعلم -علم الحجة- من يقف عند حدوده بالعلم والدليل، ويعدل بين الناس بالتثبت والحق والإنصاف، ممن يتجاوز حدوده بالهوى والتقليد، ويظلم الناس بالبغي والتعصب والحسد، وذلك كله ليحقق الله حكمته في الخلق، قال تعالى:{الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: (١ و ٢)] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ... } [البقرة: (٢١٤)].
أي: لا يكفي العبد أن يدعي بلسانه الإيمان، ولا أن يمني نفسه دخول الجنان، دون أن يمر على مقعد الامتحان، وأن يجلس على كرسي الابتلاء، فيهزه هزة بل هزات، حتى يظهر علمه وصدقه، وتنكشف حقيقته ودخيلته.
إذ لا تظهر حقيقة إيمان المرء وقوة يقينه -على نفسه وعلى غيره من الناس إلا بعد أن يبتلى.
فلا يعلم أيصبر على المصائب، وعلى أداء الطاعات، وعن المعاصي، إلا بعد أن يصاب بالمصيبة، ويتعرض للمعصية.
ولا يعلم أيصبر على الفقر أم يتضجر؟ ! أيشكر على الغنى أم يفجر؟ ! إلا بعد أن يصبح فقيراً أو غنياً.
ولا يعرف المرء أيعدل إن حكم، ويتبع أم يتعصب إن أفتى! إلا بعد أن يصبح قاضياً ومفتياً.