ومن أعظم الفتن بعد فتنة الأنبياء التي هي سلوى للمبتلين، وعبرة للسامعين، وردع للغافلين، فتنة الإمام البخاري، إذ حسده بعض شيوخه وأقرانه، ومَنْ هم دون ذلك، وتكلموا فيه، وبدَّعوه، وهجروه، وأمروا الناس بهجره، حتى خرج من بعض البلدان وحيداً، ليس معه أحد إلا الله تعالى، وكفى بالله للمظلومين نصيراً.
وَسِرُّ ذلك: أن البخاري لما قدم نيسابور، بلد محمد بن يحيى، قال لهم محمد بن يحيى:"اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه، فذهب الناس إليه، وأقبلوا على السماع منه، وظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى، فحسده بعد ذلك، وتكلم فيه".
قال أبو حامد الأعمش كما في سير أعلام النبلاء (١٢/ ٤٥٥): "رأيت محمد بن إسماعيل في جنازة أبي عثمان سعيد بن مروان، ومحمد بن يحيى -إمام من أئمة أهل الحديث- يسأله عن الأسامي، والكُنى، وعِلَلِ الحديث، ويمرُّ فيه محمد بن إسماعيل مثل السهم، فما أتى على هذا شهر حتى قال محمد بن يحيى: ألا من يختلف إلى مجلسه فلا يختلف إلينا، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلَّم في اللفظ، ونهيناه، فلم ينته، فلا تقربوه، ومن يقرْبه فلا يقْربنا، فأقام محمد بن إسماعيل هاهنا مدة، ثم خرج إلى بخارى".
"وقال محمد بن يحيى مرة: ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه" فانظر ماذا يصنع الحسد بأهله، حتى أضر نفسه، وأضر غيره بترك الاستفادة من علم هذا الإمام، ثم أبقى الله ذكره، وردَّ حسد غيره، وهكذا تتكرر حكاية البخاري في العلماء والدعاة، في كل زمان ومكان، فسبحان الله مبتلي العباد بالعباد.
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: "لكن بعض الأعيان تكلم في بعض الأقران، مثل كلام أبي نعيم في ابن منده، وابن منده فيه، فلا نتخذ كلامهما في ذلك عمدة، بل ولا نحكيه؛ لأن الناقد إذا بحث عن سبب الكلام في مثل ذلك وانتقد، رآه إما لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد، وقلّ أن يسلم عصر بعد تلك القرون الثلاثة من هذه المهالك، ومن نظر في التاريخ الإسلامي