وأمر الله الناس جميعاً بالتحاكم إلى ما أنزل، وحذرهم من مغبة الإعراض عنه، فقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: (٦٥)].
وعدّ الله الذين يأبون إذا ما دعوا إلى التحاكم من المنافقين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: (٦)]. فاحذر -يا عبد الله- من هذا أشد الحذر، وسارع إلى قبول التحاكم هرباً من الهلاك، وطلباً للفلاح {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: (٥١)].
وهذا النوع من التوحيد، قد أُخل به في عصرنا إخلالاً عريضاً، وأعرض عنه إعراضاً كبيراً، فقد شُرّع غيرُ شرعه، وحُكم بغير حكمه، وتحاكم الناس إلى غيره، فنزلت المذلة والمهانة بالمسلمين، وعلا عليهم أعداؤهم، وظهرت الحياة الضنكى التي توعد الله بها من فقر وتشريد، وظلم وفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومعنى الحاكمية هاهنا باختصار: أن لا يحكم إلا بشرعه، وأن لا يتحاكم إلا إليه.
كما ينبغي التنبه إلى أن ثمة اشتراك في المعنى في ألفاظ الحاكمية، وتداخل فيما بين الربوبية الكونية القدرية، وبين الشرعية والألوهية، فتأتي "الحاكمية" جامعة شاملة لجميع المعاني، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [المائدة: (١)]. وقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}(١) [الرعد: (٤١)]. وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: (١)].
أما قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: (٥٠)]. فهو دال على المعنيين، فقوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} دال على