للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

١٢١٥١ - حدَّثنا أحمد بن عبد الجبار العُطارِدي، حدَّثنا يونُس بن بُكير، عن هشام بن عُروة (١)، عن أبيه، عن عائشة قالت: "لقد تُحُدِّث بأمري في الإِفكِ (٢) واستُفيض به وما أشعُر. وجاء رسول الله ومعه أُناسٌ من أَصحابِه، فسأُلوا جاريةً (٣) لي سوداءَ كانت تخدمني فقالوا: أخبرينا ما عِلمُكِ بعائشةَ؟ - وأنا لا أدري- وما تعلمين منها؟ فقالت: واللّهِ ما أعلمُ منها شيئًا أَعيبُ من أنَّها تَرقُدُ ضُحى حتَّى أنَّ الدَّاجن (٤) داجِنَ أهل البيت تأكُلُ خَمِيْرَها (٥). فأَدارُوها وسألُوها حتّى فَطِنَتْ،

⦗٣٠٢⦘

وقالت: سبحان الله! والذي نفسي بيده ما أعلمُ على عائشة إلاّ ما يعلمُ الصَّائغ على تِبْر الذّهب الأحمر. وكان هذا وما شَعَرتُ. ثمَّ قام رسول الله خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهلُه، ثمّ قال: "أمّا بعدُ، فأشيروا عليَّ في أُناسٍ أَبَنُوا (٦) أهلي. وأيمُ الله إنْ علمت على أهلي من سوءٍ قطُّ. وأَبَنُوهم بمن واللهِ إنْ علمت عليه سوءًا قطُّ، وما دخل عليَّ إلَّا وأنا شاهِد، ولا غِبتُ في سفرٍ إلاَّ غابَ معي". فقال سعد بن معاذ (٧): أرى يا رسول الله أن تضرِب أعناقهم. فقال رجلٌ (٨) من الخزرَج- وكانت أمُّ حسَّان (٩) من رهطِه، وكان حسَّانُ (١٠) من رهطِه-: واللهِ ما صدقت، ولو

⦗٣٠٣⦘

كان من الأوسِ ما أَشرتَ بهذا. فكادَ يكونُ بينَ الأوسِ والحزرَج شرٌّ في المسجد. ولا علمتُ بشيءٍ منه، ولا ذكره لي ذاكرٌ، حتّى أمسيتُ من ذلك اليوم فخرجْتُ في نِسوةٍ لحِاجتِنا، وخرجَت معنا أمُّ مِسْطَح (١١) خالةُ (١٢) أبي بكرٍ، وإنّا لنَمشي ونحن عامدُون لحاجتنا، فعثُرت أمُّ مِسْطَح فقالت: تعسَ مِسْطَح (١٣). فقلت: أي أمّ تسُبِّين ابنك صاحِب رسول الله ؟ فلم تراجِعني. ثمَّ عثُرت فعادت: تعس مِسْطَح. فقلت: أأمِّي تسُبِّين صاحِب رسول الله ؟ فلم تراجِعني. ثمَّ عثُرت الثالثة فقالت: تعِس مِسْطَح. فقلت: أي أمِّ تسُبِّين ابنك صاحِب رسول الله ؟ فقالت: واللهِ ما أَسُبُّه إلاَّ من أَجلِكِ وفيكِ. فقلتُ: وفيَّ! أيُّ شَأنِي؟ فقالت: وما علِمتِ ما كان؟ فقلت: لا. وما الذي كان؟ فقالت: أَشْهَدُ أنَّكِ مبرَّأةٌ مما قيل فيك. ثمَّ نثرت لي الحديث، فأَكُبُّ راجعة إلى البيت ما أجدُ مما خرجت له قليلًا ولا كثيرًا، وركبتني الحُمَّى فحُمِمتُ. ودخل علي رسول الله فسألني عن شأني؟

⦗٣٠٤⦘

فقلت: أجِدُني موعُوكة، فَأذَنْ لي أذهبُ إلى أبويَّ؟ فأَذِن لي، وأرسل معيَ الغُلام فقال: امشِ معها. فجئت فوجدتُ أمّي في البيت الأَسفَلِ، ووجدتُ أبي يُصلِّي في العلو، فقلت لها: أي أمّه، ما هذا الذي سمعتُ؟ فإذا لم ينزل بها بحيث نزل منِّي، فقالت: أي بنيّه! وما عليك، فما من امرأةٍ لها ضرائر تكون جميلة يُحبُّها زوجها، إلاّ وهي يُقالُ لها بعض ذلك. قلت: وقد سمعه أبي؟ قالت: نعم، وقد سمعه أبوكِ. فقلت: وسمعه رسول الله ؟ قالت: ورسول الله . فبكيتُ، فسمع أبي البُكاء فنزل، فقال: ما شأنُها؟ فقالت: سمعت الذي يُحدثُ به. ففاضت عيناه يبكي، وقال: يا بنيَّةُ ارجِعي إلى بيتِك. فرجعتُ فأصبَح أبوايَ عندي. حتَّى إذا صلَّيتُ العصر دخل رسول الله وأنا بين أبويَّ، أحدهما عن يميني، والآخر عن شمالي، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أمّا بعدُ، يا عائشةُ إنْ كنت ظلمت أو أخطأت أو أسأت فتوبي وراجعي أمر الله واستغفري. فوَعظني". وبالباب امرأة من الأنصار قد أسلمت فهى جالسة بباب البيت في الحُجرة، وأنا أقول: ألا تستحي أن تذكر هذا والمرأة تسمع؟ حتِّى إذا قضى كلامه، قلت لأبي وغَمَزتُه: ألا تكلَّم؟ فقال: وما أقول له. فالتفتُّ إلى أمِّي فقلت: ألا تكلَّمى؟ فقالت: وماذا أقول له. قالت عائشة: فحمدتُ الله وأثنيتُ عليه بما هو أهلُه، ثمَّ قلت: أمّا بعدُ، واللهِ لئِن قُلتُ لكم لقد فعَلتُ، واللّهُ يشهدُ أنِّي لبريئةٌ مَا فَعلتُ. لتقولون قد بَاءَت به على نفسِها فاعترَفت به. ولئِن قُلتُ لم أفعل، واللهُ

⦗٣٠٥⦘

يعلمُ إنِّي لصادقة. ما أنتم بمصدِّقي. لقد دخل هذا في أنفُسِكم واستفاض فيكم، وما أجِدُ لي ولكم مثلًا إلا قول أبي يوسف العبد الصَّالحِ -وما أعرِفُ يومئِذٍ اسمه (١٤) -: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (١٥).

ونَزَل الوَحي ساعةَ قَضيتُ كلامي، فعرفتُ واللهِ البِشرَ في وجهِ رسول الله قبل أن يتكلَّم. فمسح جَبهته وجبينه، ثمَّ قال: "أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله ﷿ عذركِ، وتلا القُرآن". فكنتُ أَشدَّ ما كُنتُ غَضْبا، فقال لي أبي وأُمِّي: قومي إلى رسول الله . فقلت: واللهِ لا أقُومُ إليه، ولا أحمَدُهُ، ولا إيَّاكما، ولكن أحمدُ الله ﷿ الذي أنزَلَ براءَتي. لقد سمعتم فما أنكرتُم، ولا جادلتم، ولا خاصمتم. فقال الرَّجُلُ (١٦)

⦗٣٠٦⦘

الذي قيل له ما قيل حين بلغه نُزول العُذُر: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفتُ قطُّ كَنَفَ أُنثى (١٧). وكان مِسْطَحُ يتيما في حِجرِ أبي بكرٍ يُنفِقُ عليه. فحلف أبو بكر أن لا ينفع مِسْطحًا بنافعةٍ أبدا. فأنزل الله ﷿: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى﴾ إلى قوله: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (١٨) فقال أبو بكر: بلى يا ربِّ إنِّي أُحبُّ أن تغفر لي، وفاضت عيناه؛ فبكى (١٩).


(١) ابن الزبير وهو موضع الالتقاء.
(٢) لإفك في الأصل الكذب، والمراد به هنا ما كذب عليها ورميت به . (انظر: النهاية ١/ ٥٦، تفسير القرآن العظيم ٦/ ١٧، المعجم الكبير للطبراني ٢٣/ ١٣٤).
(٣) جاءت تسميتها "بريرة" كما في رواية البخاري في صحيحه (برقم ٤٧٥٠)، ومسلم في صحيحه (التوبة: رقم ٥٦).
(٤) بدال مهملة ثم جيم: الشاة التي تألف البيت ولا تخرج إلى المرعى، وقيل هي كل ما يألف البيوت مطلقًا شاة أو طير. (الفتح ٨/ ٣٢٦، شرح صحيح مسلم للنووي ١٧/ ١٦٣).
(٥) ما يجعل في العجين. (انظر: مختار الصحاح صـ ١٨٩).
(٦) بباء موحدة مفتوحة مخففة -على الأشهر- والمعنى: اتهموها. (انظر: شرح صحيح مسلم للنووي ١٧/ ١٧٠، فتح الباري ٨/ ٣٢٧).
(٧) الأنصاري وهو سيد الأوس (انظر: التقريب صـ ٢٣٢).
ووقع خلاف بين شراح الحديث، هل ذكر سعد في هذا الحديث وهم أم لا؟
لأن حادثة الإفك كانت في غزوة المريسيع (سنة ٦) وموت سعد بن معاذ بعد الخندق سنة أربع: ومن أجل ذلك ذهب جماعة من الشراح إلى أنه وهم، ولهذا لم يذكره ابن إسحاق في روايته.
والقول الثاني: أن الرواية صحيحة وأن الصواب أن غزوة المريسيع كانت سنة خمس والخندق كذلك سنة خمس، وهذا هو الذي انتصر له الحافظ ابن حجر في الفتح (٨/ ٣٢٧، ٣٢٨) وأجاب على أصحاب القول الأول.
(٨) جاء التصريح به في رواية يونس بن يزيد: أنه سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج (انظر: الفتح ٨/ ٣٢٩).
(٩) هي الفريعة بنت خالد بن حبيش -أو خنيس- بن لوذان الخزرجية. (الإصابة ٢/ ٦٣، ٨٧٣).
(١٠) تقدمت ترجمته (١٩/ ١١٨) وهو من بني النجار الأنصاري، الخزرجي.
(١١) القريشية التيمية، مشهور بكنيتها.
قال ابن سعد: أسلمت أم مسطح فحسن إسلامها وكانت من أشد الناس على مسطح حين تكلم مع أهل الإفك. (انظر: الإصابة ٨/ ٣٠٢، ٣٠٣).
(١٢) كذا في هذه الرواية والذي في الإصابة (٨/ ٣٠٣، ٦/ ٩٣) أبي بنت خالة أبي بكر.
(١٣) ابن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي المطلي، كان اسمه عوفاً وأما مسطح فهو لقبه. (الإصابة ٦/ ١٩٣).
(١٤) جاء في رواية صالح بن كيسان عن الزهري: "قالت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن" قال ابن حجر : "هذا توطئة لعذرها لكونها لم تستحضر اسم يعقوب ".
وجاء في رواية أبي أويس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة (عند الطبراني في الكبير ٢٣/ ١١١ رقم ١٥١) "ونسيت اسم يعقوب لما بي من الحزن والبكاء واحتراق الجوف".
(١٥) سورة يوسف (آية ١٨).
(١٦) هو صفوان بن المعطل كما في رواية سعيد بن أبي هلال عن هشام بن عروة به، عند المصنف برقم (٢١١٥٨)، وانظر: تكملة فتح الملهم (١٢/ ٦٩).
(١٧) الكنف -بفتح الكاف والنون-: المراد به هنا: الثوب الذي يستر المرأة، وهو كناية عن كونه لم يقارب امرأة قط. (تكملة فتح الملهم ١٢/ ٦٩).
(١٨) سورة النور (آية ٢٢).
(١٩) أخرجه البخاري في صحيحه (الشهادات: باب تعديل النساء بعضهن بعضاً ٥/ ٣٢٢ رقم ٢٦٦١) من طريق فليح بن سليمان عن هشام بن عروة به (مثله) أي مثل لفظ رواية فليح عن الزهري عن عروة به -وقد ساقه بتمامه-.
وأخرجه مسلم في صحيحه (التوبة: باب في حديث الإفك ٤/ ٢١٣٧ رقم ٥٨) من طريق أبي أسامة (حماد بن أسامة) عن هشام بن عروة به.
فائدة الإستخراج: أخرج الإمام مسلم بعض لفظ رواية هشام بن عروة عن أبيه، وساقها المصنف تامة من طريق يونس بن بكير عن هشام، وساق الطبراني رواية أبي أسامة تامة (المعجم الكبير ٢٣/ ١٠٨ رقم ١٥٠).
وقد تعقب الحافظ ابن حجر: صنيع الإمام البخاري عند ما قال "مثله" وقال الحافظ: بينهما تفاوت كبير. (الفتح ٨/ ٣١٠).
وساق الإمام البخاري لفظ أبي أسامة عن هشام بن عروة به -بتمامه- معلقًا. (صحيح البخاري رقم ٤٧٥٧).