(٢) الحديث في موطَّئه من رواية يحيى اللَّيْثِي عنه مُطوَّلًا (٢/ ٥٠٧ - ٥٠٨)، ولفظه: "قلتُ لعائشة أمِّ المُؤمنين وأنَا يومَئِذٍ حديثُ السِّنِّ أرأيتِ قولَ الله ﵎: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن = ⦗٣٥٥⦘ = يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ فما على الرَّجلِ شيءٌ أن لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا فقالتْ عائشة: كلَّا، لو كانَ كما تقولُ لكانتْ: "فلا جُنَاح عليه أنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا إنَّما أُنْزِلَتْ هذه الآية في الأنصارِ، كانُوا يُهِلُّون لِمَنَاة وكانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وكانوا يَتَحَرَّجُونَ أن يَطَّوَّفُوا بين الصَّفا والمروة، فلمَّا جاء الإسلام سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك، فأنزل الله ﵎ ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾. قلتُ: ذكرت لفظ مالك عن هشام، لعدم ذكر المصنِّف إيَّاه، ولأنَّه يخالف رواية أبي معاوية الضَّرير التَّالية عن هشام بن عروة في شيئين: أولهما: في لفظ مالك أن الأنصار كانوا يُهِلُّون لمناة، وفي حديث أبي معاوية أنَّ الأنصار كانوا يُهِلُّون لصنمين على شطِّ البحر، وهما: إساف ونائلة. ثانيهما: في لفظ أبي مُعاوية: أن الأنصار كانوا يطوفون بالصفا والمروة، فلما جاء الإسلام تحرَّجوا من ذلك، وفي لفظ مالك: أن الأنصار كانوا يتحرَّجون في الجَاهِليَّة أن يطوفوا بين الصَّفا والمروة. ورواه أبو أسامة حمَّاد بن أسامة (كما عند مسلم ٢/ ٩٢٨، ح ٢٦٠) عن هشام بن عروة بلفظ: "إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار، كانوا إذا أهلُّوا أهلُّوا لمناة في الجاهلية، فلا يحِلُّ لهم، أن يطَّوَّفوا بين الصفا والمروة"، فوافق مالكا في المعنى. وقد روى هذا الحديث غير هشام عن عروة بن الزبير، فرواه جماعة عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة ﵂ به (كما سيأتي برقم / ٣٧٨٠، ٣٧٨١، ٣٧٨٢، ٣٧٨٣)، كل ألفاظ الرُّواة عنه تجتمع على "أنَّ الأنصار كانوا يُهِلُّون لمناة، وأنَّهم كانُوا يتحرَّجُونَ في الجَاهلية أنْ يطَّوَّفوا بالصَّفا والمروة"، وهو مخالفٌ لما رواه مسلم (٢/ ٩٢٨) بإسناده عن أبي مُعاوية عن هشام بن عروة (انظر الحديث التَّالي)، أمَّا = ⦗٣٥٦⦘ = حديثُ الزُّهْرِي فاتَّفَق الشَّيخان على إخراجه في صحيحيهما. قال البيهقي في السنن الكبرى (٥/ ٩٦): "كذا قال أبو معاوية عن هشام: أنَّ الآية نزلتْ في الذين كانُوا يَطَوَّفُون بين الصَّفَا والمروة في الجاهلية، ورواه أبو أسامة عن هشام نحو رواية مالك في أنَّها نزلتْ فيمن لا يَطوَّف بينهما، ويحتملُ أن يكونَ كلاهُما صَحِيْحًا". وقال أيضًا (٥/ ٩٧): "وروايةُ الزُّهري عن عروة تُوافِق روايةَ مالكٍ وغيرِه عن هشام بن عروة عن أبيه، وروايتُه عن أبي بكر بن عبد الرحمن تُوَافِق روايةَ أبي معاوية عن هشام، ثُمَّ قدْ حَمَلَه أبو بكرٍ على الأمرين جميعا، وأَنَّ الآية نزلتْ في الفريقين معًا، والله أعلم". قلتُ: ما أشار إليه البيهقي في قوله الثاني، هو ما جاء في حديث الزُّهري (كما في ح / ٣٧٧٩) أنَّه ذكر هذا الحديث لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال: والله إن هذا لعلمٌ وأمرٌ ما سمعت به، لقد سمعتُ رجالًا من أهل العلم، إلَّا ما ذكرتْ عائشة يذكُرُون: إِنَّما من كان يُهِلُّ لمناةَ الطَّاغية، كلُّهم كانوا يطوفون بالصَّفا والمَرْوة، فلما أمر الله بالطَّواف بالبيت ولم يذكر الصَّفا والمروة فقالوا: يا رسول الله، إنَّا كنَّا نطوف في الجاهلية بالصَّفا والمروة فنتحرَّجُ في الإسلام أن نطَّوَّف بهما، قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية قد أنزلت في الفريقين كليهما: الذين كانوا يَتَحَرَّجون في الجاهلية أن يَطَوَّفُوا بالصَّفا والمروة، والذين كانوا يطوَّفون كما في الجاهلية ثُمَّ تَحَرَّجُوا في الإسلام من أجْلِ أن الله قد أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الطواف بالصَّفا والمروة مع طوافهم بالبيت حين ذكروا"، وقد روى الإمام أحمد في مسنده (٦/ ١٦٢) عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزُّهري مثلَ رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة، بلفظ: "قالت: كان رجالٌ من الأَنْصَار ممن يُهِلُّ لمناةَ في الجَاهِليَّة -ومناةُ صنمٌ بين مكة = ⦗٣٥٧⦘ = والمدينة- قالوا: يا نبيَّ الله! إِنَا كُنَّا نَطُوفُ بين الصَّفا والمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لمناة، فهلْ علينَا من حرجٍ أنْ نَطَّوَّف بهما، فأنزلَ الله ﷿: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾. قال المعلِّق على المسند شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (٣/ ٥٨٤): "وأخرج مسلمٌ من طريق أبي معاوية عن هشام هذا الحديث فخالف جميع ما تقدم ولفظه: "إِنَّما كان ذلك لأنَّ الأنصار كانوا يُهِلُّون في الجَاهليَّة لِصَنَمَيْن على شطِّ البحر، يقال لهما: إِساف ونائلة فيطوفون بين الصفا والمروة ثُمَّ يُحِلُّون فلمَّا جاء الإسلام كرِهوا أن يَطَّوَّفُوا بينهما للَّذي كانوا يصنعُون في الجاهليَّة"، فهذه الرواية تقتضي أن تحرُّجَهم إنما كان لِئَلَّا يفعلوا في الإسلام شيئًا كانوا يفعلونه في الجاهليَّة. . فهذه الرِّواية توجيهها ظاهر، بخلاف رواية أبي أسامة فإنها تقتضي أنَّ التَّحرج عن الطَّواف بين الصفا والمروة لكونهم كانوا لا يفعلونه في الجاهلية ولا يلزم من عنهم فعل شيء في الجاهلية أن يتحرجوا من فعله في الإسلام. . وسقط من روايته -أي رواية أبي معاوية- أيضًا إهلالُهم أوَّلا لمناة فكأنَّهم كانُوا يُهِلُّون لمناةَ فيبدءُون بها ثُمَّ يطوفون بين الصَّفا والمروة لأجل إِساف ونائلة، فَمِنْ ثَمَّ تَحَرَّجُوا من الطَّواف بينهما في الإسلام، ويؤيِّد ما ذكرناه حديث أنس المذكور في الباب الذي بعده بلفظ: "أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال: نعم لأنَّها كانتْ من شِعَار الجاهلية"، وروى النَّسائي بإسناد قوي عن زيد بن حارئة قال: "كان على الصَّفا والمروة صنمَان من نُحَاسٍ يقال لهما إِسَاف ونائلة، كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما" الحديث". وبعد سرْدِ الرِّوايات التي تقوِّي ما رواه أبو معاوية قال الحافظ ابن حجر: = ⦗٣٥٨⦘ = "فهذا كله يوضِّح قُوَّة رواية أبي مُعَاوية وتَقَدُّمها على رواية غيره، ويحتمل أن يكون الأنصار في الجاهلية كانوا فريقين، منهم من كان يطوف بينهما على ما اقتضته رواية أبي معاوية، ومنهم من كان لا يَقْرَبهُما على ما اقتضته رواية الزُّهري، واشترك الفريقان في الإسلام على التَّوقُّف عن الطَّواف بينهما لكونِه كان عندهم جميعًا من أفعال الجاهلية فيجمع بين الروايتين بهذا". (٣) موضع الالتقاء مع مسلم. (٤) انظر: سورة البَقَرَة: ١٥٨. (٥) لم يُخرجه مسلمٌ من طريق مالك، وأخرجه من طُرُقٍ أخرى عن هشام كما سيأتي في الحديث التَّالي (ح / ٣٧٦٦). وأخرجه البُخاري في كتاب الحج -باب: يفعل بالعُمْرَة ما يفعل بالحج (ص ٢٨٨، ح ١٧٩٠)، وفي كتاب التفسير- سورة البقرة -باب قوله تعالى: "إنَّ الصفا والمروة من شعائر الله" (ص ٧٦٤، ح ٤٤٩٤) عن عبد الله بن يوسف عن مالك به مطوَّلًا. من فوائد الاستخراج: • رواية المصنِّف الحديث من طريق مالك، وهو اختيار البخاري. • رواية القعنبي عن مالك هذا الحديث، وهو من أثْبَتِ أصحاب مالك. (تهذيب التهذيب ٦/ ٣٢).