. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَأَنْتَ إذًا مِنْ إخْوَانِ الشَّيَاطِينِ، إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ رُهْبَانِ النَّصَارَى فَأَنْتَ مِنْهُمْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَّا فَاصْنَعْ كَمَا نَصْنَعُ، وَإِنَّ مِنْ سُنَّتِنَا النِّكَاحَ، شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ، وَأَرَاذِلُ مَوْتَاكُمْ عُزَّابُكُمْ، وَيْحَك يَا عَكَّافُ تَزَوَّجْ، قَالَ: فَقَالَ عَكَّافٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَتَزَوَّجُ حَتَّى تُزَوِّجَنِي مَنْ شِئْتَ، قَالَ: فَقَالَ ﷺ: فَقَدْ زَوَّجْتُكَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَالْبَرَكَةِ كَرِيمَةَ بِنْتَ كُلْثُومٍ الْحِمْيَرِيِّ» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدٍ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ، وَقَوْلُهُ ﷺ «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا تَكْثُرُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا، فَقِيلَ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعَامِّ لَا يَنْفِي كَوْنَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكِفَايَةِ عَلَى الْكُلِّ وَالْمُعَرَّفِ لِكَوْنِهِ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ مَعْرِفَةُ سَبَبِ شَرْعِيَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ كَانَ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَدْ عَقَلْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِيجَابِ تَكْثِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ وَعَدَمُ انْقِطَاعِهِمْ، وَلِذَا صَرَّحَ بِالْعِلَّةِ حَيْثُ قَالَ ﷺ «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهَذَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَكَّافٍ فَإِيجَابٌ عَلَى مُعَيَّنٍ فَيَجُوزُ كَوْنُ سَبَبِ الْوُجُوبِ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ. وَقِيلَ: وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الظَّنُّ وَالْآيَةُ لَمْ تُسَقْ إلَّا لِبَيَانِ الْعَدَدِ الْمُحَلَّلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ. وَقِيلَ مُسْتَحَبٌّ.
وَقِيلَ إنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْلِ مَنْ أَطْلَقَ الِاسْتِحْبَابَ. وَكَثِيرًا مَا يَتَسَاهَلُ فِي إطْلَاقِ الْمُسْتَحَبِّ عَلَى السُّنَّةِ.
وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ ﵀ أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَأَنَّ التَّجَرُّدَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَحَقِيقَةُ أَفْضَلَ يَنْفِي كَوْنَهُ مُبَاحًا إذْ لَا فَضْلَ فِي الْمُبَاحِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ إنْ اقْتَرَنَ بِنِيَّةٍ كَانَ ذَا فَضْلٍ، وَالتَّجَرُّدُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ مَدَحَ يَحْيَى ﵇ بِعَدَمِ إتْيَانِ النِّسَاءِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا مَعْنَى الْحَصُورِ.
وَحِينَئِذٍ فَإِذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ ﷺ «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّجْ الْحَرَائِرَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَبِقَوْلِهِ ﷺ «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: الْحِنَّاءُ، وَالتَّعَطُّرُ. وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ»
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَبِقَوْلِهِ ﷺ «أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيهِنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَبَدَنًا عَلَى الْبَلَاءِ صَابِرًا، وَزَوْجَةً لَا تَبْغِيهِ حُوبًا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ، وَإِسْنَادُ أَحَدِهِمَا جَيِّدٌ. لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ لَا أُنْكِرُ الْفَضِيلَةَ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ وَإِنَّمَا أَقُولُ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ. فَالْأَوْلَى فِي جَوَابِهِ التَّمَسُّكُ بِحَالِهِ ﷺ فِي نَفْسِهِ وَرَدُّهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ مِنْ أُمَّتِهِ التَّخَلِّيَ لِلْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي عَيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَدْ سَأَلُوا أَزْوَاجَهُ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَرَدَّ هَذَا الْحَالَ رَدًّا مُؤَكَّدًا حَتَّى تَبْرَأَ مِنْهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَفْضَلِيَّةُ فِي الِاتِّبَاعِ لَا فِيمَا يُخَيَّلُ لِلنَّفْسِ أَنَّهُ أَفْضَلُ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ عِبَادَةٍ وَتَوَجُّهٍ، وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ ﷿ يَرْضَى لِأَشْرَفِ أَنْبِيَائِهِ إلَّا بِأَشْرَفِ الْأَحْوَالِ، وَكَانَ حَالُهُ إلَى الْوَفَاةِ النِّكَاحَ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَرِّرَهُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَحَالُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا ﵉ كَانَ أَفْضَلَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ نُسِخَتْ الرَّهْبَانِيَّةُ فِي مِلَّتِنَا، وَلَوْ تَعَارَضَا