للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ

قُدِّمَ التَّمَسُّكُ بِحَالِ النَّبِيِّ .

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " تَزَوَّجُوا فَإِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً " وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ مِنْ تَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَتَوْسِعَةِ الْبَاطِنِ بِالتَّحَمُّلِ فِي مُعَاشَرَةِ أَبْنَاءِ النَّوْعِ وَتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِ الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ بِهَا وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ وَإِعْفَافِ الْحُرْمِ وَنَفْسِهِ وَدَفْعِ الْفِتْنَةِ عَنْهُ وَعَنْهُنَّ وَدَفْعِ التَّقْتِيرِ عَنْهُنَّ بِحَبْسِهِنَّ لِكِفَايَتِهِنَّ مَئُونَةِ سَبَبِ الْخُرُوجِ ثُمَّ الِاشْتِغَالِ بِتَأْدِيبِ نَفْسِهِ وَتَأْهِيلِهِ لِلْعُبُودِيَّةِ وَلِتَكُونَ هِيَ أَيْضًا سَبَبًا لِتَأْهِيلِ غَيْرِهَا وَأَمْرِهَا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْفَرَائِضَ كَثِيرَةٌ لَمْ يَكَدْ يَقِفْ عَنْ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي، بِخِلَافِ مَا إذَا عَارَضَهُ خَوْفُ الْجَوْرِ إذْ الْكَلَامُ لَيْسَ فِيهِ بَلْ فِي الِاعْتِدَالِ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ.

وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةٌ كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَمَبْنَى الْعِبَادَة عَلَى خِلَافِهِ. وَأَقُولُ: بَلْ فِيهِ فَضْلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَضَائِهَا بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ، فَالْعُدُولُ إلَيْهِ مَعَ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَلْزِمُ أَثْقَالًا فِيهِ قَصْدُ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ وَعَلَيْهِ يُثَابُ وَوُعِدَ الْعَوْنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِاسْتِحْسَانِ حَالَتِهِ، قَالَ «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ» صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ.

أَمَّا إذَا لَمْ يَتَزَوَّجْ الْمَرْأَةَ إلَّا لِعِزِّهَا أَوْ مَالِهَا أَوْ حَسَبِهَا فَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا، قَالَ «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا ذُلًّا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إلَّا دَنَاءَةً. وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يُرِدْ بِهَا إلَّا أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ وَيُحْصِنَ فَرْجَهُ أَوْ يَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا وَبَارَكَ لَهَا فِيهِ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.

وَقَالَ «لَا تَتَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ. وَلَا تَتَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ. وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، فَلَأَمَةٌ خَرْقَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ بْنِ أَنْعُمٍ.

وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ «جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حُسْنٍ وَجَمَالٍ وَحَسَبٍ وَمَنْصِبٍ وَمَالٍ إلَّا أَنَّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

هَذَا وَيُسْتَحَبُّ مُبَاشَرَةُ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَكَوْنُهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ الزِّفَافِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ» وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهَا قَالَتْ «زَفَفْنَا امْرَأَةً إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : يَا عَائِشَةُ أَمَا يَكُونُ مَعَهُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ» وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الْمُرَادُ بِالدُّفِّ مَا لَا جَلَاجِلَ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

(قَوْلُهُ النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) قَدَّمْنَا أَنَّ النِّكَاحَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْعَقْدُ، وَهَذَا بَيَانٌ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَمْ يَثْبُتْ انْعِقَادُهُ حَتَّى يَتِمَّ عَقْدًا مُسْتَعْقَبًا لِأَحْكَامِهِ، فَلَفْظُ النِّكَاحِ فِي قَوْلِهِ النِّكَاحُ يَنْعَقِدُ بِمَعْنَى الْعَقْدِ: أَيْ ذَلِكَ الْعَقْدُ الْخَاصُّ يَنْعَقِدُ حَتَّى تَتِمَّ حَقِيقَتُهُ فِي الْوُجُودِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَالِانْعِقَادُ هُوَ ارْتِبَاطُ أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يُسَمَّى بِاعْتِبَارِهِ عَقْدًا شَرْعِيًّا وَيَسْتَعْقِبُ الْأَحْكَامَ

<<  <  ج: ص:  >  >>