فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ ذِكْرُ الشَّرْطِ بَعْدَهُ رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ. قَالَ ﵁:
وَلَوْ طَلَّقَ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّك قَدْ اسْتَثْنَيْت وَهُوَ غَيْرُ ذَاكِرٍ إنْ كَانَ بِحَيْثُ إذَا غُصِبَ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ وَسِعَهُ الْأَخْذُ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِلَّا لَا يَأْخُذُ بِهَا.
وَمِنْهَا إطْلَاقُ قَوْلِهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ «فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاتِّصَالِ بِالْعُرْفِ الْعَمَلِيِّ، لِأَنَّ عُرْفَ جَمِيعِ النَّاسِ وَصْلُ الِاسْتِثْنَاءِ لَا فَصْلُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ وَلَفْظُهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ بِلَا مُهْلَةٍ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ» ثُمَّ يُوجِبُهُ أَيْضًا اللَّوَازِمُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِوُقُوعِ طَلَاقٍ وَلَا عَتَاقٍ وَلَا إقْرَارٍ بِمَالٍ وَلَا مَا لَا يُحْصَى مِنْ اللَّوَازِمِ الْبَاطِلَةِ، وَبِذَلِكَ أَخَافَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمَنْصُورَ حِينَ وَشَى بِهِ أَعْدَاؤُهُ إلَيْهِ بِأَنَّهُ يَرُدُّ رَأْيَ جَدِّك ابْنِ عَبَّاسٍ فِي جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ، فَقَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ: إنَّ مُخَالِفَتَهُ فِيهَا تَحْصِينُ الْخِلَافَةِ عَلَيْك وَمَنْعُ خُرُوجِ الْمُحَالِفِينَ لَك مِنْ الْخُرُوجِ عَلَيْك، وَإِلَّا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَثْنُوا إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِك.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِنَا فِي أَنَّهُ إذَا قَالَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ طَالِقٌ أَوْ حُرَّةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ: يَتَنَجَّزَانِ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُمَا بِشَرْطٍ مُحَقَّقٍ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ كُلًّا مِنْ طَلَاقِهَا وَعَتَاقَهَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّلَفُّظُ بِهِ، وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ صُدُورَ اللَّفْظِ مِنْهُ فَقَدْ شَاءَ اللَّهُ صُدُورَهُ، وَإِنْ أَرَادَ وُجُودَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَقَدْ حَكَمَتْ الشَّرِيعَةُ أَنَّهُ إذَا صَدَرَ اللَّفْظُ وَجَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَشِيئَةِ فِيمَا بَعْدُ فَمَشِيئَتُهُ قَدِيمَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَظَنُّهُ أَنَّهَا تَتَجَدَّدُ مُحَالٌ.
وَالْحُجَّةُ لَنَا مَا رَوَيْنَا وَبَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى. وَالْجَوَابُ عَنْ مُتَمَسَّكِهِ أَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِمُحَقَّقٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَخْتَارُ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيقَ وُجُودِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ فَقَدْ حَكَمَتْ الشَّرِيعَةُ إلَى آخِرِهِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، إذْ التَّعْلِيقَاتُ مِنْ نَحْوِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ أَوْ دَخَلْت الدَّارَ وُجِدَ فِيهِ لَفْظُ الطَّلَاقِ وَلَمْ تَحْكُمْ الشَّرِيعَةُ بِوُقُوعِهِ فِي الْحَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
(قَوْلُهُ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ أَوْ ذِكْرُ الشَّرْطِ إلَخْ) إنَّمَا نَوْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ اسْتِثْنَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَعْلِيقٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ النَّقْلِ عَنْهُمَا، وَقَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لَوْ قَالَ: إنْ دَخَلْت فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ مَثَلًا، قَالَ فِي النَّوَازِلِ: هَذَا قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ مِنْ الْأَمْثَالِ مَا لَيْسَ بِهِ حَقِيقَةٌ، وَلِأَنَّ الْمِثْلَ تَشْبِيهٌ وَلَا يَكُونُ فِي التَّشْبِيهِ إيجَابُ الْمَالِ، قَالَ: وَبِهِ نَأْخُذُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِيجَابَ عَلَى نَفْسِهِ.
[فُرُوعٌ]
طَلَّقَ أَوْ خَلَعَ ثُمَّ ادَّعَى الِاسْتِثْنَاءَ أَوْ الشَّرْطَ وَلَا مُنَازِعَ لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ، وَكَذَا إذَا كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فِيهِ ذَكَرَهُ فِي الْحَاوِي لِلْإِمَامِ مَحْمُودٍ الْبُخَارِيِّ وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَلَّقَ أَوْ خَالَعَهَا بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ قَالَا: لَمْ يَسْتَثْنِ قُبِلَتْ، وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا عَلَى النَّفْيِ بَلْ قَالَا: لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ لَفْظَةِ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي الِاسْتِثْنَاءَ. فَفِي الْمُحِيطِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ. وَفِي فَوَائِدِ شَمْسِ الْإِسْلَامِ الْأُوزْجَنْدِيِّ: لَا يَسْمَعُ دَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ إذَا عَرَفَ الطَّلَاقَ بِالْبَيِّنَةِ بَلْ إذَا عَرَفَ بِإِقْرَارِهِ، وَمِثْلُهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُك أَمْسِ وَقُلْت: إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَعْتِقُ.
وَفِي الْفَتَاوَى لِلنَّسَفِيِّ: لَوْ ادَّعَى الِاسْتِثْنَاءَ وَقَالَتْ: بَلْ طَلَّقَنِي فَالْقَوْلُ لَهَا وَلَا يُصَدَّقُ الزَّوْجُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute