وَالْأَصْلُ أَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ وَمَقَامَ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ﴾ وَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْجِنْسِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى
لِأَنَّ اللِّعَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْفَاسِقَيْنِ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِيهَا لِتَثْبُتَ عِفَّتُهَا لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ عَفِيفًا عَنْ الزِّنَا، فَكَذَا اللِّعَانُ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ قَذْفِهَا، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ اللِّعَانِ أَنْ تُطَالِبَ الْمَرْأَةُ بِمُوجَبِ الْقَذْفِ وَهُوَ الْحَدُّ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا لَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِذَلِكَ فَلَا يُتَصَوَّرُ اللِّعَانُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ هَذَا الْمَعْنَى فَلِأَيِّ مَعْنًى يَمْتَنِعُ اهـ.
الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْمَقْذُوفَةُ دُونَهُ فَاخْتُصَّتْ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِهِ لَيْسَ بِمَقْذُوفٍ وَهُوَ شَاهِدٌ فَاشْتُرِطَتْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ دُونَ كَوْنِهِ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُ (قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ) أَيْ إنَّ الْأَصْلَ فِي اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا، وَاشْتِرَاطُ كَوْنِهَا مَعَ ذَلِكَ عَفِيفَةً مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ، فَلِذَلِكَ اشْتَرَطْنَا أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ فِي حَقِّهِ: أَيْ قَذْفِهِ لَهَا فَلِذَلِكَ اشْتَرَطْنَا كَوْنَهَا مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا وَمَقَامُ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهَا إنْ كَانَ صَادِقًا (قَوْلُهُ عِنْدَنَا) قُيِّدَ بِهَذَا الظَّرْفِ لِيُفِيدَ الْخِلَافَ.
فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ اللِّعَانُ أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالشَّهَادَاتِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ مِمَّنْ كَانَ أَهْلًا لِلْيَمِينِ وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، فَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُهُ فَهُوَ أَهْلٌ لَهُ عِنْدَهُ، فَيَجِبُ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ عَاقِلٍ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رِوَايَةٌ كَقَوْلِنَا، وَجْهُ قَوْلِهِ قَوْله تَعَالَى ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ﴾ فَقَوْلِهِ تَعَالَى " بِاَللَّهِ " مُحْكَمٌ فِي الْيَمِينِ وَالشَّهَادَةِ تَحْتَمِلُ الْيَمِينَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَشْهَدُ يَنْوِي الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا، فَحَمَلْنَا الْمُحْتَمَلَ عَلَى الْمُحْكَمِ، لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ فِي الشَّرْعِ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ يَمِينِهِ، وَكَذَا الْمَعْهُودُ شَرْعًا عَدَمُ تَكَرُّرِ الشَّهَادَةِ فِي مَوْضِعٍ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ فِي الْقَسَامَةِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَحَلُّهَا الْإِثْبَاتَاتِ وَالْيَمِينُ لِلنَّفْيِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعَلُّقُ حَقِيقَتِهِمَا بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ أَحَدِهِمَا وَمَجَازِ الْآخَرِ، فَلْيَكُنْ الْمَجَازُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ الْمُوجِبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يَقْتَضِي فِي حِلِّ مَذْهَبِهِ أَنْ يُقَالَ أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِأَيْمَانٍ لَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ.
وَلَنَا الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ﴾ أَثْبَتَ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَجَعَلَ الشُّهَدَاءَ مَجَازًا عَنْ الْحَالِفِينَ يُصَيِّرُ الْمَعْنَى: وَلَمْ يَكُنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute