وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَمَذْهَبُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حِدَادَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ
يُفِيدُهُ عَلَى مَا عُرِفَ، وَمِنْ أَنَّ نَفْيَ حِلِّ الْإِحْدَادِ إيجَابُ الزِّينَةِ فَاسْتِثْنَاؤُهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْإِيجَابِ فَيَكُونُ إيجَابًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ لَازِمٍ، إذْ يَمْنَعُ كَوْنَ نَفْيِ حِلِّ الشَّيْءِ الْحِسِّيِّ نَفْيٌ لَهُ عَنْ الْوُجُوبِ لُغَةً أَوْ شَرْعًا لِيَتَضَمَّنَ الِاسْتِثْنَاءُ الْإِخْبَارَ بِوُجُودِهِ بَلْ نَفْيٌ لَهُ عَنْ الْحِلِّ، وَلَوْ سَلِمَ فَوُجُودُ الشَّيْءِ فِي الشَّرْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ لِتَحَقُّقِهِ بِالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَلَا وُجُوبَ.
وَأَيْضًا اسْتِثْنَاءُ الْإِحْدَادِ مِنْ إيجَابِ الزِّينَةِ حَاصِلُهُ نَفْيُ وُجُوبِ الزِّينَةِ وَهُوَ مَعْنَى حِلِّ الْإِحْدَادِ، وَاتِّحَادُ الْجِنْسِ حَاصِلٌ مَعَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْإِحْدَادُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ عَلَى صِفَةِ الْوُجُودِ فِيهِمَا فَهُوَ كَالْأَوَّلِ، فَلِذَا قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ: وَمَا فَاهُوا بِهِ بِمَا فِيهِ ثَلْجُ الْفُؤَادِ. وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَلَكِنْ يَحِلُّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَخَّصَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، وَعَلَى مَنْ سِوَاهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ». وَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِنَحْوِ حَدِيثِ حَفْصَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ ﷺ قَالَ «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» فَإِنَّ فِيهِ تَصْرِيحًا بِالْإِخْبَارِ، وَيَكُونُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لِلْمُصَنِّفِ مَحْكُومًا بِإِرَادَةِ الْإِخْبَارِ بِوُجُودِ فِعْلِهَا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ لِظُهُورِ إرَادَتِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، وَلَمْ يَخْفَ أَنَّ الْإِخْبَارَ الْمُوجِبَ لِلْوُجُوبِ الْإِخْبَارُ بِصُدُورِ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَلَّفِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ثُبُوتِهِ شَرْعًا مَثَلًا إذَا قَالَ الْحِدَادُ تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ أَفَادَ الْوُجُوبَ لَا إذَا قَالَ الْحِدَادُ ثَابِتٌ شَرْعًا فَإِنَّهُ أَعَمُّ.
وَمِنْ الْأَدِلَّةِ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ ﷺ قَالَ «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إلَّا إذَا ظَهَرَتْ نُبْذَةٌ مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» فَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ فِي تَفْصِيلِ مَعْنَى تَرْكِ الْإِحْدَادِ، وَالنُّبْذَةُ بِضَمِّ النُّونِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ، وَالْقُسْطُ وَالْأَظْفَارُ نَوْعَانِ مِنْ الْبَخُورِ، رَخَّصَ فِيهِ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ فِي تَطْيِيبِ الْمَحَلِّ وَإِزَالَةِ كَرَاهَتِهِ.
وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَالَتْ «جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنَكْحُلُهَا - بِضَمِّ الْحَاءِ -؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: لَا، ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُرْمَى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ» قَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدَ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ. الْحِفْشُ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ فَاءٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ: الْبَيْتُ الصَّغِيرُ قَرِيبُ السَّقْفِ حَقِيرٌ وَتَفْتَضُّ بِفَاءٍ ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةٍ قِيلَ: أَيْ تَكْسِرُ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْعِدَّةِ بِطَائِرٍ أَوْ نَحْوِهِ تَمْسَحُ بِهِ قُبُلَهَا وَتَنْبِذُهُ، فَلَا يَكَادُ يَعِيشُ مَا تَفْتَضُّ بِهِ، فَهُوَ مِنْ فَضَّ اللَّهُ فَاهُ وَلَا فَضَّ اللَّهُ فَاك. وَقِيلَ: الِافْتِضَاضُ الْإِنْقَاءُ بِالْغُسْلِ لِيَصِيرَ كَالْفِضَّةِ فَهُوَ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ﵀ لَا إحْدَادَ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ لِأَنَّهُ لِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ لِصَبْرِهِ عَلَى صُحْبَتِهَا إلَى الْمَوْتِ، بِخِلَافِ ابْتِدَائِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute