فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّعْوَةِ بِمَنْزِلَةِ مَالِكِ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَعَيَّنُ مَقْصُودًا مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّعْوَةِ.
الظَّاهِرُ عَدَمَ قَصْدِهِ فَكَانَ لِلظَّاهِرِ الْعَزْلُ.
وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ فَلَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْوَطْءِ، وَمَا قِيلَ الْوَطْءُ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ وَقَدْ لَا يُقْصَدُ بِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَدَمُهُ. قُلْنَا: وَلَا يَتَعَيَّنُ وُجُودُهُ كَمَا قُلْتُمْ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ مِنْ الْعَدَمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ دَلِيلِهِمْ فِيهِ الْمَنْقُولُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ﵂ قَالَتْ «اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَعْنِي فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ اُنْظُرْ إلَى شَبَهِهِ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهَهُ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطُّ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ ﷺ إنَّمَا قَضَى بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ وَرِثَهُ لَا عَلَى أَنَّهُ أَخُوهُ، وَلِذَا قَالَ هُوَ لَك وَلَمْ يَقُلْ هُوَ أَخُوك، وَقَالَ: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ، وَلَوْ كَانَ أَخًا لَهَا بِالشَّرْعِ لَمْ يَجِبْ احْتِجَابُهَا مِنْهُ، فَهَذَا دَفْعٌ بِانْتِفَاءِ لَازِمِ الْأُخُوَّةِ شَرْعًا وَالْأَوَّلُ بِاللَّفْظِ نَفْسِهِ. وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ» وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالِاحْتِجَابِ فَلِمَا رَأَى مِنْ الشَّبَهِ الْبَيِّنِ بِعُتْبَةَ. وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ حِينَئِذٍ مُعَارِضَةٌ لِرِوَايَةِ " هُوَ لَك " وَهِيَ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّهَا الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ فَلَا تُعَارِضُهَا الشَّاذَّةُ، وَالشَّبَهُ لَا يُوجِبُ احْتِجَابَ أُخْتِهِ شَرْعًا مِنْهُ، وَإِلَّا لَوَجَبَ الْآنَ وُجُوبًا مُسْتَمِرًّا أَنَّ كُلَّ مَنْ أَشْبَهَ غَيْرَ أَبِيهِ الثَّابِتِ نَسَبُهُ مِنْهُ يَجِبُ حُكْمًا لِلشَّبَهِ احْتِجَابُ أُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَجَدَتْهُ لِأَبِيهِ مِنْهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا. وَإِذْن قَوْلُهُ: " لِلْفِرَاشِ الْوَلَدُ " يَنْتَفِي بِهِ نَسَبُهُ عَنْ سَعْدٍ بِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ وَعَنْ عَبْدٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُ: يَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلَا فِرَاشَ الْوَاحِدِ مِنْ عُتْبَةَ وَزَمْعَةَ فَهُوَ حِينَئِذٍ عَبْدٌ لَك يَا عَبْدُ مِيرَاثٌ لَك مِنْ أَبِيك.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَهُ، وَأَمَّا أَنْتِ فَاحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ» فَتَصْرِيحُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ أَخًا لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ، وَبِهِ تَقْوَى مُعَارَضَةُ رِوَايَةِ هُوَ أَخُوك. وَقَوْلُهُ " أَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَهُ " يُفِيدُ أَنَّهُ أَخُوهُمَا، فَإِمَّا أَنْ يَحْكُمَ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ لِتَدَافُعِ مَعْنَاهُ، أَوْ يَجْمَعَ بِأَنَّ الْمُثْبَتَ الْأُخُوَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْمَنْفِيَّ الْأُخُوَّةُ الْحَقِيقَةُ، وَهُوَ أَنْ يُخْلَقَا مِنْ مَاءِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فِي عَدَمِ الِاحْتِجَابِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْأُخُوَّةِ بِمَعْنَى التَّخَلُّقِ مِنْ مَاءِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مَعَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فَاعْتُبِرَ ثَابِتًا بِثُبُوتِ النَّسَبِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ شَبَهُ غَيْرِ الْمَنْسُوبِ كَمَا هُوَ فِي الصُّورَةِ الْمَرْوِيَّةِ، ثُمَّ يَجْعَلُ هَذَا لَيْسَ حُكْمًا مُسْتَمِرًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا خَاصًّا بِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ لِأَنَّ حِجَابَهُنَّ مَنِيعٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَهُنَّ: ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ وَعَلَى هَذَا يَجِبُ حَمْلُ الْوَلِيدَةِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وُلِدَتْ لِزَمْعَةَ قَبْلَ ذَلِكَ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ هُوَ لَك: أَيْ مَقْضِيٌّ بِهِ لَك، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخُوك كَمَا هُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى. وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ثُمَّ يَعْتَزِلُونَهُنَّ، لَا تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إلَّا أَلْحَقْت بِهِ وَلَدَهَا، فَاعْتَزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ اُتْرُكُوا. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَمُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute