لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِثْلُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلِهَذَا يُقَالُ وُهِبَ وَلَمْ يَقْبَلْ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَذَلِكَ
بِإِزَاءِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَعًا، وَفِي عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ بِإِزَاءِ الْإِيجَابِ فَقَطْ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْعَطِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْعُمْرِيِّ وَالنِّحْلِيِّ وَالْإِقْرَارِ وَالْهَدِيَّةِ. وَقَالَ زَفَرُ: هِيَ كَالْبَيْعِ. وَفِي الْبَيْعِ وَمَا مَعَهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لِلْمَجْمُوعِ. فَلِذَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْتُك أَمْسِ هَذَا الثَّوْبَ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ: بَلْ قَبِلْت أَوْ آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ فَلَمْ تَقْبَلْ فَقَالَ بَلْ قَبِلْت الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْبَيْعِ تَضَمَّنَ إقْرَارَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَقَوْلُهُ: لَمْ تَقْبَلْ رُجُوعٌ عَنْهُ، وَكَذَا عَلَى عَدَمِ الْحِنْثِ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَأَوْجَبَ فَقَطْ، وَعَلَى الْحِنْثِ إذَا حَلَفَ لَيَبِيعَنَّ الْيَوْمَ فَأَوْجَبَ فِيهِ فَقَطْ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، فَعِنْدَنَا يَبَرُّ الْإِيجَابُ، وَعِنْدَهُ يَحْنَثُ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِزُفَرَ بِاعْتِبَارِهِ بِالْبَيْعِ (لِأَنَّهُ) أَيْ عَقْدَ الْهِبَةِ (تَمْلِيكُ مِثْلِهِ) حَتَّى يَتَوَقَّفَ تَمَامُ سَبَبِيَّتِهِ عَلَى الْقَبُولِ فَلَا يَكُونُ هُوَ: أَيْ عَقْدُ الْهِبَةِ بِلَا قَبُولٍ كَالْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بَلْ بِمُجَرَّدِ إيجَابِ الْهِبَةِ وَالْقَبُولِ مِنْ الْآخَرِ بَرَّ لِتَمَامِ السَّبَبِ، وَإِنَّمَا الْقَبْضُ شَرْطُ حُكْمِهِ وَالسَّبَبُ يَتِمُّ دُونَهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: يُشْتَرَطُ مَعَهُ الْقَبْضُ فَلَا يَبَرُّ حَتَّى يَقْبِضَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ بِلَا حُكْمٍ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ) أَيْ الْهِبَةُ اسْمٌ لِلتَّبَرُّعِ، فَإِذَا تَبَرَّعَ وُجِدَ الْمُسَمَّى فَيَحْنَثُ، وَلَا يُرَادُ تَمَامُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ إلَّا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهِ قَبْلَ الْقَبُولِ، إلَّا أَنَّ بِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ بِلَا اخْتِيَارٍ وَنَحْوِهِ مِنْ فَسْخِ نِكَاحِ الزَّوْجَةِ الْمَرْقُوقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَوِّلَ وَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ لِتَمَامِ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي احْتِيَاجِهِ إلَى الْقَبُولِ فِي تَمَامِ الْعَقْدِ وَوُقُوعِهِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْآخَرِ كَالْبَيْعِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ بِهِ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ بِلَا بَدَلٍ حَتَّى يَظْهَرَ رِضَاهُ بِذَلِكَ بِلَفْظِهِ الْمُفِيدِ لَهُ فَهُوَ كَالْبَيْعِ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَحَقِيقَةُ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِي تَعْيِينِ مُسَمَّيَاتٍ شَرْعِيَّةٍ لِأَلْفَاظٍ هِيَ لَفْظُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَأَخَوَاتِهِمَا، وَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالنَّقْلِ أَوْ الِاسْتِدْلَالِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ بَاعَ فُلَانٌ كَذَا أَوْ بِعْت كَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ وُقُوعُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حُكِمَ بِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ لِلْمَجْمُوعِ، ثُمَّ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي اسْمِ الْهِبَةِ فَقَالَ زُفَرُ هُوَ كَذَلِكَ، وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ بِالنَّقْلِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ» فَقَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الْإِهْدَاءِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَقَطْ لِفَرْضِ أَنَّهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَهْدَى إمَّا حِكَايَةُ قَوْلِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ أَهْدَيْتُ لَك هَذَا أَوْ حِكَايَةُ فِعْلٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُفِيدُ أَنَّ اسْمَ الْهِدَايَةِ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْآخَرِ أَوْ لَا. وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا بِقَوْلِنَا: وَهَبْت لِفُلَانٍ فَلَمْ يَقْبَلْ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُطْلِقَ لَفْظَ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيجَابِ بِقَرِينَةٍ كَقَوْلِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ فَقَطْ كَمَا يُقَالُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَكَوْنُهُ ظَهَرَ فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي مُجَرَّدِ الْإِيجَابِ بِقَرِينَةٍ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ هُوَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْته هَذَا الثَّوْبَ بِأَلْفٍ فَلَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَكُنْ مُخْطِئًا وَيَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِاسْمِ الْكُلِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute