للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَضْرِبُ الرَّأْسَ أَيْضًا رَجَعَ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ سَوْطًا لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا. قُلْنَا: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِيمَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ. وَيُقَالُ: إنَّهُ وَرَدَ فِي حَرْبِيٍّ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الْكَفَرَةِ وَالْإِهْلَاكُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ (وَيُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ : يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا، وَلِأَنَّ مَبْنَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ، وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ. ثُمَّ قَوْلُهُ: غَيْرَ مَمْدُودٍ، فَقَدْ قِيلَ الْمَدُّ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ

ذُكِرَ فِي رِوَايَةٍ غَيْرِهِ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا حَكَيْنَاهُ آنِفًا.

وَبِمَا سَمِعْته تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ دَلِيلٌ عَلَى بَعْضِ الْمَطْلُوبِ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ وَهُوَ ضَرْبُ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ أَنَّهُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ فَرُبَّمَا تَفْسُدُ وَهُوَ إهْلَاكٌ مَعْنًى. وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ ظَاهِرٌ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَقْلَ فِي الرَّأْسِ إلَّا أَنْ يَئُولَ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَمَا قِيلَ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالْكَافِي إنَّ الشَّافِعِيَّ يَخُصُّ الظُّهُورَ وَاسْتِدْلَالُ الشَّارِحِينَ عَلَيْهِ «بِقَوْلِهِ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك» غَيْرُ ثَابِتٍ فِي كُتُبِهِمْ، بَلْ الَّذِي فِيهَا كَقَوْلِنَا.

وَإِنَّمَا تِلْكَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ خَصَّ الظَّهْرَ وَمَا يَلِيهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّهْرِ نَفْسُهُ: أَيْ حَدٌّ عَلَيْك بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَمَا اسْتَنْبَطْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ «إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ» وَأَنَّهُ فِي نَحْوِ الْحَدِّ فَمَا سِوَاهُ دَاخِلٌ فِي الضَّرْبِ، ثُمَّ خَصَّ مِنْهُ الْفَرْجَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي التَّعْزِيرِ: يُضْرَبُ الظَّهْرُ وَفِي الْحُدُودِ الْأَعْضَاءُ وَالْمَذَاكِيرُ جَمْعُ ذَكَرٍ بِمَعْنَى الْعُضْوِ فَرَّقُوا فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الذَّكَرِ بِمَعْنَى الرَّجُلِ حَيْثُ قَالُوا ذُكْرَانٌ وَذُكُورَةٌ وَذِكَارَةٌ وَبِمَعْنَى الْعُضْوِ. ثُمَّ جَمَعَهُ بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ مَا حَوْلَهُ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ ذَكَرًا كَمَا قَالُوا: شَابَتْ مَفَارِقُهُ وَإِنَّمَا لَهُ مَفْرِقٌ وَاحِدٌ (قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُضْرَبُ الرَّأْسُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً رَجَعَ إلَيْهِ) بَعْدَ أَنْ كَانَ أَوَّلًا يَقُولُ: لَا يُضْرَبُ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي ذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أُتِيَ بِرَجُلٍ انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ: اضْرِبْ الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا. وَالْمَسْعُودِيُّ مُضَعَّفٌ. وَلَكِنْ رَوَى الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ صُبَيْغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرُ وَأَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صُبَيْغٌ، فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ، وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك فَقَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْت أَجِدُ فِي رَأْسِي. وَهَذَا يُنَافِي جَوَابَ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مُسْتَحِقِّ الْقَتْلِ.

وَلَوْ قُلْنَا: إنَّ وَاقِعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فِيهِ فَإِنَّ ضَرْبَ عُمَرَ الرَّأْسَ كَانَ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَكَذَا ضَرْبُ أَبِي بَكْرٍ لِلَّذِي انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ. هَذَا وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا الصَّدْرَ وَالْبَطْنَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، بَلْ الصَّدْرُ مِنْ الْمَحَامِلِ، وَالضَّرْبُ بِالسَّوْطِ الْمُتَوَسِّطِ عَدَدًا يَسِيرًا لَا يَقْتُلُ فِي الْبَطْنِ فَكَيْفَ بِالصَّدْرِ. نَعَمْ إذَا فُعِلَ بِالْعَصَا كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا فِي بُيُوتِ الظَّلَمَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُضْرَبَ الْبَطْنُ (قَوْلُهُ: وَيُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا) وَكَذَا التَّعْزِيرُ (قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ لِقَوْلِ عَلِيٍّ إلَخْ) رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنِّفِهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: يُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ قَاعِدَةً فِي الْحُدُودِ (وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ) زَجْرًا لِلْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِهِ (وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ) وَالْمَرْأَةُ مَبْنَى أَمْرِهَا عَلَى السَّتْرِ فَيُكْتَفَى بِتَشْهِيرِ الْحَدِّ فَقَطْ بِلَا زِيَادَةٍ (وَقَوْلُهُ غَيْرَ مَمْدُودٍ قِيلَ الْمَدُّ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ

<<  <  ج: ص:  >  >>