يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ﵊ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ثُمَّ الشُّبْهَةُ نَوْعَانِ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً.
لِأَنَّ إسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لَا يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ، فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ. وَأَيْضًا فِي إجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ «الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ» كِفَايَةٌ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ. وَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وَالصَّحَابَةِ مَا يُقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَقَدْ عَلِمْنَا «أَنَّهُ ﵊ قَالَ لِمَاعِزٍ لَعَلَّك قَبَّلْت، لَعَلَّك لَمَسْت، لَعَلَّك غَمَزْت» كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إلَّا كَوْنُهُ إذَا قَالَهَا تُرِكَ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ. وَلَمْ يَقُلْ لِمَنْ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَك فَضَاعَتْ وَنَحْوُهُ، وَكَذَا قَالَ لِلسَّارِقِ الَّذِي جِيءَ بِهِ إلَيْهِ «أَسَرَقْت مَا إخَالُهُ سَرَقَ» وَلِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ ﵁ لِشُرَاحَةَ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْك وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَك، لَعَلَّ مَوْلَاك زَوَّجَك مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ، وَتُتْبَعُ مِثْلُهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ يُوجِبُ طَوْلًا.
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلُّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِقْرَارِ وَبِهِ الثُّبُوتُ، وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فِي ضَرُورِيٍّ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَائِلِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا فِي بَعْضٍ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ أَوْ لَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: الشُّبْهَةُ مَا يُثْبِتُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَا لِلْفُقَهَاءِ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحَاتٌ؛ فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: الشُّبْهَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: فِي الْمَحَلِّ، وَالْفَاعِلِ، وَالْجِهَةِ. أَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فَوَطْءُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute