(وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا) أَمَّا عَنْهُمَا فَلِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ، وَأَمَّا عَنْ الشُّهُودِ فَلِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلِّ فَرِيقٍ
كَانَ صَغِيرًا وَالْفِعْلُ وَسَطَهُ فَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي جِهَةٍ يَظُنُّ أَنَّهُ إلَيْهِ أَقْرَبُ فَيَقُولُ: إنَّهُ فِي الزَّاوِيَةِ الَّتِي تَلِيهِ، بِخِلَافِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا فَكَانَ كَالدَّارَيْنِ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ صُورَةً لَا حَقِيقَةً أَوْ حَقِيقَةً وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ، بِأَنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ ثُمَّ صَارَ إلَى أُخْرَى بِتَحَرُّكِهِمَا عِنْدَ الْفِعْلِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفُوا نَقْلَهُ فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَائِمٌ فِي الْبَلْدَتَيْنِ. نَعَمْ إنَّمَا هُمْ مُكَلَّفُونَ بِأَنْ يَقُولُوا مَثَلًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالْوَجْهُ مَا اقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَوْفِيقٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَهُوَ احْتِيَاطٌ فِي الْإِقَامَةِ وَالْوَاجِبُ دَرْؤُهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْفِيقَ مَشْرُوعٌ صِيَانَةً لِلْقَضَاءِ عَنْ التَّعْطِيلِ، فَإِنَّهُ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ قُبِلُوا مَعَ احْتِمَالِ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى زِنَاهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ، وَقَبُولُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِ الزِّنَا الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي شَهَادَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: الِاخْتِلَافُ فِي مَسْأَلَتِنَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَفِي هَذِهِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ. أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوْفِيقَ مَشْرُوعٌ فِي كُلٍّ مِنْ الِاخْتِلَافِ الْمَنْصُوصِ وَالْمَسْكُوتِ. وَمِنْ الْأَوَّلِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ أَوْ فِي السِّمَنِ وَالْهُزَالِ أَوْ فِي أَنَّهَا بَيْضَاءُ أَوْ سَمْرَاءُ أَوْ عَلَيْهَا ثَوْبٌ أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ تُقْبَلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَقَدْ اسْتَشْكَلَ عَلَى هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا شَهِدُوا، فَاخْتَلَفُوا فِي الْإِكْرَاهِ وَالطَّوَاعِيَةِ، فَإِنَّ هَذَا التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ كُرْهًا وَانْتِهَاؤُهُ طَوَاعِيَةً.
قَالَ فِي الْكَافِي: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ كُرْهًا إذَا كَانَ عَنْ إكْرَاهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَا يَجِبُ وَبِالنَّظَرِ إلَى الِانْتِهَاءِ يَجِبُ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ، وَهُنَا بِالنَّظَرِ إلَى الزَّاوِيَتَيْنِ يَجِبُ فَافْتَرَقَا
(قَوْلُهُ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِالنُّخَيْلَةِ) بِالنُّونِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ تَصْغِيرُ نَخْلَةٍ مَكَانٌ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ يُقَالُ بَجِيلَةٌ بِالْبَاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْجِيمِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ بِالْيَمَنِ (وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ فَلَا حَدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، أَمَّا عَنْهُمَا فَلِلتَّيَقُّنِ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ) إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الزِّنَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فَلَا يَجِبُ حَدُّهُمَا بِالشَّكِّ، وَأَمَّا فِي الشُّهُودِ فَلِلتَّيَقُّنِ بِصِدْقِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فَلَا يُحَدُّونَ بِالشَّكِّ، فَلَوْ كَانَ الْمَكَانَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُ الْأَمْرَيْنِ فِيهِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ يُقَالُ لِوَقْتٍ مُمْتَدٍّ امْتِدَادًا عُرْفِيًّا لَا أَنَّهُ يَخُصُّ أَنَّ ظُهُورَهَا مِنْ الْأُفُقِ، وَيَحْتَمِلُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ.
وَدَيْرُ هِنْدٍ: دَيْرٌ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، وَهِنْدٌ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ مَاءِ السَّمَاءِ كَانَتْ تَرَهَّبَتْ وَبَنَتْ هَذَا الدَّيْرَ وَأَقَامَتْ بِهِ، وَخَطَبَهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَيَّامَ إمَارَتِهِ عَلَى الْكُوفَةِ فَقَالَتْ: وَالصَّلِيبُ مَا فِي رَغْبَةٍ لِجَمَالٍ وَلَا كَثْرَةِ مَالٍ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَخِرَ بِنِكَاحِي فَيَقُولَ: نَكَحْت بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِلَّا فَأَيُّ رَغْبَةٍ لِشَيْخٍ أَعْوَرَ فِي عَجُوزٍ عَمْيَاءَ؟ فَصَدَّقَهَا الْمُغِيرَةُ وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
أَدْرَكْت مَا مَنَّيْت نَفْسِي خَالِيًا … لِلَّهِ دَرُّك يَا ابْنَةَ النُّعْمَانِ
فَلَقَدْ رَدَدْت عَلَى الْمُغِيرَةِ دَهْيَةً … إنَّ الْمُلُوكَ ذَكِيَّةُ الْأَذْهَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute