للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى أَعْرَابِيٍّ سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ. وَسَنُبَيِّنُ الْكَلَامَ فِي حَدِّ السُّكْرِ وَمِقْدَارِ حَدِّهِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

لِكُلِّ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَتَارَةً بِغَيْرِ ذَلِكَ.

فَمِنْ الْأَوَّلِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ". وَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْهُ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ «وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وَأَمَّا مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ ابْنَ مَعِينٍ طَعَنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَكَيْفَ لَهُ بِذَلِكَ وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ: النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: كُنْت سَاقِيَ الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا شَرَابُهُمْ إلَّا الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُ عُمَرَ : الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ.

وَإِذَا ثَبَتَ عُمُومُ الِاسْمِ ثَبَتَ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَوُجُوبُ الْحَدِّ بِالْحَدِيثِ الْمُوجِبِ ثُبُوتَهُ فِي الْخَمْرِ لِأَنَّهُ مُسَمَّى الْخَمْرِ، لَكِنْ هَذِهِ كُلُّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ بِحَذْفِ أَدَاتِهِ فَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، كَزَيْدٌ أَسَدٌ: أَيْ فِي حُكْمِهِ، وَكَذَا الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ أَوْ مِنْ خَمْسَةٍ هُوَ عَلَى الِادِّعَاءِ حِينَ اتَّحَدَ حُكْمُهَا بِهَا جَازَ تَنْزِيلُهَا مَنْزِلَتَهَا فِي الِاسْتِعْمَالِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الِاسْتِعْمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ تَقُولُ السُّلْطَانُ هُوَ فُلَانٌ إذَا كَانَ فُلَانٌ نَافِذَ الْكَلِمَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَيُعْمَلُ بِكَلَامِهِ أَيْ الْمُحَرَّمُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَاءِ الْعِنَبِ بَلْ كُلِّ مَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ هُوَ لَا يُرَادُ إلَّا الْحُكْمُ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ فِي التَّشْبِيهِ عُمُومُ وَجْهِهِ فِي كُلِّ صِفَةٍ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ثُبُوتُ الْحَدِّ بِالْأَشْرِبَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْخَمْرِ، بَلْ يُصَحِّحُ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ فِيهَا ثُبُوتُ حُرْمَتِهَا فِي الْجُمْلَةِ إمَّا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا أَوْ كَثِيرُهَا الْمُسْكِرُ مِنْهَا. وَكَوْنُ التَّشْبِيهِ خِلَافَ الْأَصْلِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ فِي اللُّغَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الْخَمْرِ بِالنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا اشْتَدَّ. وَهَذَا مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ تَتَبَّعَ مَوَاقِعَ اسْتِعْمَالَاتهمْ، وَلَقَدْ يَطُولُ الْكَلَامُ بِإِيرَادِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ الْمَذْكُورَ عَلَى الْخَمْرِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ : حُرِّمَتْ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ.

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ مَاءَ الْعِنَبِ لِثُبُوتِ أَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ غَيْرُهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ: وَمَا شَرَابُهُمْ يَوْمَئِذٍ: أَيْ يَوْمَ حُرِّمَتْ إلَّا الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. فَعُرِفَ أَنَّ مَا أَطْلَقَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحَمْلِ لِغَيْرِهَا عَلَيْهَا بِهُوَ هُوَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِ عُمُومِ الِاسْمِ لُغَةً فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْهُ «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرْقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ «فَالْحُسْوَةُ مِنْهُ حَرَامٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَأَجْوَدُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ» أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ حِبَّانَ.

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارِ الْمَوْصِلِيِّ وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ احْتَجَّ بِهِمَا الشَّيْخَانِ، وَحِينَئِذٍ فَجَوَابُهُمْ بِعَدَمِ ثُبُوتِ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَكَذَا حَمْلُهُ عَلَى مَا بِهِ حَصَلَ السُّكْرُ وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ لِأَنَّ صَرِيحَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْقَلِيلُ. وَمَا أُسْنِدَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ " قَالَ: هِيَ الشَّرْبَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>