(وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ) لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ سَبًّا لَهُ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ بِنَفْيِ مُشَابَهَتِهِ أَبَاهُ فِي أَسْبَابِ الْمُرُوءَةِ (وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يَعْنِي جَدَّهُ لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ، وَلَوْ نَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ لَا يُحَدُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَيْهِ مَجَازًا.
عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ وَلَا تَكُونَ أُمُّهُ زَانِيَةً بِأَنْ كَانَتْ مَوْطُوءَةٌ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ. الْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّك لَسْت لِأَبِيك الَّذِي وُلِدْتَ مِنْ مَائِهِ بَلْ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْهُ، وَهَذَا مَلْزُومٌ بِأَنَّ الْأُمَّ زَنَتْ مَعَ صَاحِبِ الْمَاءِ الَّذِي وُلِدَ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي لَا عَنْ غَيْرِهِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ نَفْيَ نَسَبِهِ عَنْ أَبِيهِ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ أَبِيهِ زَانِيًا لِأَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الزَّانِي فَيَلْزَمُ أَنَّ أُمَّهُ زَنَتْ مَعَ أَبِيهِ فَجَاءَتْ بِهِ مِنْ الزِّنَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِجَوَازِ كَوْنِ أَبِيهِ زَنَى بِأُمِّهِ مُكْرَهَةً أَوْ نَائِمَةً فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ أَبِيهِ وَلَا يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ فَالْوَجْهُ إثْبَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِعَدَمِ إرَادَةِ الْأَبِ الَّذِي يُدْعَى إلَيْهِ وَيُنْسَبُ بِخُصُوصِهِ، وَلَا شَكَّ فِي هَذَا وَإِلَّا كَانَتْ بِمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ الَّتِي يَرِدُ عَلَيْهَا السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ، وَجَوَابُهُ مَا سَيَجِيءُ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ الْحَدِّ فِي هَذِهِ عَلَى مَا إذَا كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ فِي حَالِ الْغَضَبِ وَالسِّبَابِ بِدَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَإِذَنْ يَخْتَلِفُ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْأَبِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْغَضَبِ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْأَبِ الْأَبُ الْمَشْهُورُ، فَيَكُونُ النَّفْيُ مَجَازًا عَنْ نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ فِي مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ
(قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ فِي غَضَبٍ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ لِأَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى إلَيْهِ يُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ فِي غَيْرِ غَضَبٍ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ عِنْدَ الْغَضَبِ يُرَادُ بِهِ حَقِيقَتُهُ) أَيْ حَقِيقَةُ نَفْيِهِ عَنْ أَبِيهِ لِأَنَّهُ حَالَةُ سَبٍّ وَشَتْمٍ، وَفِي غَيْرِهِ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ عَلَى عَدَمِ تَشَبُّهِهِ بِهِ فِي مَحَاسِنِ أَخْلَاقِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَيْسَ نِسْبَةُ أُمِّهِ إلَى الزِّنَا أَمْرًا لَازِمًا لِجَوَازِ نَفْيِهِ عَنْهُ. وَالْقَصْدُ إلَى إثْبَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا، فَثُبُوتُ الْحَدِّ بِهِ بِمَعُونَةِ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا لَا يُثْبِتُ الْقَذْفَ بِصَرِيحِ الزِّنَا. وَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْحَدَّ اسْتِحْسَانًا بِأَثَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: بَلَغَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا حَدَّ إلَّا فِي قَذْفِ مُحْصَنَةٍ أَوْ نَفْيِ رَجُلٍ عَنْ أَبِيهِ. ثُمَّ حَمَلُوا الْأَثَرَ عَلَى النَّفْيِ حَالَةَ الْغَضَبِ، وَحَكَمُوا بِأَنَّهُ حَالَةَ عَدَمِهِ لَمْ يَنْفِهِ عَنْ أَبِيهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّخْصِيصِ فِي شَيْءٍ إذْ لَيْسَ قَذْفًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لَوْ كَانَ قَذْفًا أُخْرِجَ مِنْ حُكْمِ الْقَذْفِ. وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ وَلَا ابْنِ فُلَانَةَ لَا يُحَدُّ مُطْلَقًا لِأَنَّ حَدَّهُ فِي قَوْلِهِ لَسْت ابْنَ فُلَانٍ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَذَفَ أُمَّهُ، وَإِذَا نَفَى نَسَبَهُ عَنْ أُمِّهِ فَقَدْ نَفَى وِلَادَتَهَا إيَّاهُ فَقَدْ نَفَى زِنَاهَا بِهِ فَكَيْفَ يُحَدُّ. هَذَا، وَأَمَّا إذَا قَالَ يَا وَلَدَ الزِّنَا أَوْ يَا ابْنَ الزِّنَا فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَفْصِيلٌ بَلْ يُحَدُّ أَلْبَتَّةَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا حَلِيلَةَ فُلَانٍ لَا يُحَدُّ وَلَا يُعَزَّرُ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَسْت بِابْنِ فُلَانٍ يُرِيدُ بِفُلَانٍ جَدَّهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كَلَامِهِ) وَكَذَا لَوْ قَالَ أَنْتَ ابْنُ فُلَانٍ: يَعْنِي جَدَّهُ هُوَ صَادِقٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُنْسَبُ إلَى الْجَدِّ مَجَازًا مُتَعَارَفًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute