وَلِأَنَّ الْجِنَايَاتِ تَتَفَاوَتُ عَلَى الْأَحْوَالِ فَاللَّائِقُ تَغَلُّظُ الْحُكْمِ بِتَغَلُّظِهَا. أَمَّا الْحَبْسُ فِي الْأُولَى فَلِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ بِدَفْعِ شَرِّهِمْ عَنْ أَهْلِهَا، وَيُعَزَّرُونَ أَيْضًا لِمُبَاشَرَتِهِمْ مُنْكَرَ الْإِخَافَةِ. وَشَرْطُ الْقُدْرَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ كَمَا بَيَّنَّاهَا لِمَا تَلَوْنَاهُ. وَشَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لِتَكُونَ الْعِصْمَةُ مُؤَبَّدَةً، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ. وَشَرْطُ كَمَالِ النِّصَابِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَيْ لَا يُسْتَبَاحَ طَرَفُهُ إلَّا بِتَنَاوُلِهِ مَالَهُ خَطَرٌ، وَالْمُرَادُ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ كَمَا بَيَّنَّاهَا لِمَا تَلَوْنَاهُ (وَيُقْتَلُونَ حَدًّا، حَتَّى لَوْ عَفَا الْأَوْلِيَاءُ عَنْهُمْ لَا يُلْتَفَت إلَى عَفْوِهِمْ)
لَا رَأْيَ لَهُ قَطَعَهُ. وَلَنَا مَا رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ قَالَ: وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَبَا بُرْدَةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ، فَجَاءَ أُنَاسٌ يُرِيدُنَّ الْإِسْلَامَ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ أَبِي بُرْدَةَ الطَّرِيقَ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ ﵇ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْحَدِّ أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الشِّرْكِ».
وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ نُفِيَ». وَبِالنَّظَرِ إلَى الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْمَقْطُوعِ بِهِ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ كُلُّهَا أَجِزْيَةٌ عَلَى جِنَايَةِ الْقَطْعِ، وَمِنْ الْمَقْطُوعِ بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ تَتَفَاوَتُ خِفَّةً وَغِلْظًا، وَالْعَمَلُ بِالْإِطْلَاقِ الْمَحْضِ لِلْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ أَنْ يُرَتَّبَ عَلَى أَغْلَظِهَا أَخَفُّ الْأَجْزِيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَعَلَى أَخَفِّهَا أَغْلَظُ الْأَجْزِيَةِ.
وَهَذَا مِمَّا يَدْفَعُهُ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِتَوْزِيعِ الْأَغْلَظِ لِلْأَغْلَظِ وَالْأَخَفِّ لِلْأَخَفِّ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّوْزِيعِ مُوَافَقَةً لِأَصْلِ الشَّرْعِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَتْلُ بِالْقَتْلِ، وَالْقَطْعُ بِالْأَخْذِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْأَخْذَ لَمَّا كَانَ أَغْلَظَ مِنْ أَخْذِ السَّرِقَةِ حَيْثُ كَانَ مُجَاهَرَةً وَمُكَابَرَةً مَعَ إشْهَارِ السِّلَاحِ جُعِلَ الْمَرَّةُ مِنْهُ كَالْمَرَّتَيْنِ، فَقُطِعَ فِي الْأَخْذِ مَرَّةً الْيَدُ وَالرِّجْلُ مَعًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ النِّصَابِ فِيهِ عِشْرِينَ، لِأَنَّ الْغِلَظَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ لَا مُتَعَلَّقِهِ، وَلِمُوَافَقَةِ قَاعِدَةِ الشَّرْعِ شَرَطَ فِي قَطْعِهِمْ كَوْنَ مَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا كَامِلًا كَيْ لَا يُسْتَبَاحَ طَرَفُهُ بِأَقَلَّ مِنْ النِّصَابِ فَيُخَالِفَ قَاعِدَةَ الشَّرْعِ. وَلَمْ يَشْرِطْ مَالِكٌ سِوَى أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ نِصَابًا فَصَاعِدًا أَصَابَ كُلًّا نِصَابٌ أَوْ لَا، وَكَوْنُ الْمَقْطُوعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute