وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّصَدُّقُ لِقَوْلِهِ ﵊ «فَإِنْ لَمْ يَأْتِ» يَعْنِي صَاحِبَهَا، «فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ» وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِقَوْلِهِ ﵊ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ ﵁ «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَانْتَفِعْ بِهَا» وَكَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُبَاحُ لِلْفَقِيرِ حَمْلًا لَهُ عَلَى رَفْعِهَا صِيَانَةً لَهَا وَالْغَنِيُّ يُشَارِكُهُ فِيهِ.
وَلَنَا مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِرِضَاهُ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ وَالْإِبَاحَةُ لِلْفَقِيرِ لِمَا رَوَيْنَاهُ، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْغَنِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَخْذِ لِاحْتِمَالِ افْتِقَارِهِ فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، وَالْفَقِيرُ قَدْ يَتَوَانَى لِاحْتِمَالِ اسْتِغْنَائِهِ فِيهَا
وَجْهُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ مَالِكُهَا وَصَاحِبُ الْبَيِّنَةِ ظَلَمَهُ بِتَضْمِينِهِ فَلَا يَظْلِمُهُ هُوَ وَصَارَ كَالْمُودِعِ إذَا صَدَّقَ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ وَدَفَعَ إلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَضَمِنَهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ لِزَعْمِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ وَالْمُودِعُ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ.
وَلَنَا أَنَّهُ وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْمِلْكِ لَكِنَّهُ لَمَّا قَضَى بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ فَقَدْ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِتَكْذِيبِ الْقَاضِي فَبَطَلَ إقْرَارُهُ وَصَارَ كَأَنَّهُ دَفَعَ بِلَا تَصْدِيقٍ، ثُمَّ ظَهَرَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ وَصَارَ كَإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ إذَا اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ بِبَيِّنَةٍ فَقَضَى لَهُ بِهِ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ، وَمِثْلُ هَذَا يَجْرِي فِي إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ وَكِيلُ الْمُودِعِ. وَاَلَّذِي فَرَّقَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُودِعِ أَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُودِعُ فِي قَبْضِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ وَلَيْسَ بِضَامِنٍ، بَلْ الْمُودِعُ ظَلَمَهُ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ، وَمَنْ ظُلِمَ لَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ مُوهِنًا فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ ضَامِنٌ إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا ضَمِنَ انْتَهَى (قَوْلُهُ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِاللُّقَطَةِ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ الصَّدَقَةُ لِقَوْلِهِ ﷺ «فَإِنْ لَمْ يَأْتِ: يَعْنِي صَاحِبَهَا، فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ» وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى غَنِيٍّ فَأَشْبَهَ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ) وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سُمَيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: لَا تَحِلُّ اللُّقَطَةُ، فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلْيُؤَدِّهِ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ، فَإِنْ جَاءَ فَلْيُخَيِّرْهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَبَيْنَ الَّذِي لَهُ» وَفِيهِ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ.
وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ إذَا كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِطَرِيقِ الْقَرْضِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً لَا فَرْضًا فَيَكُونُ فِيهِ لِلْمَالِكِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ تَحْقِيقًا لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمَالِكِ بِحُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ وَجَانِبِ الْمُلْتَقِطِ كَمَا لَوْ كَانَ الْفَقِيرُ غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ، وَلِهَذَا جَازَ دَفْعُهَا إلَى فَقِيرٍ غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ وَإِنْ كَانَ أَبَا الْمُلْتَقِطِ أَوْ ابْنَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ (وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ تَحْقِيقِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِطَرِيقِ الْقَرْضِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ (لِقَوْلِهِ ﷺ «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا») قَالُوا (وَأُبَيُّ كَانَ مِنْ الْمَيَاسِيرِ) بِدَلِيلِ مَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّهُ ﷺ قَالَ «وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِك».
فَقَدْ جَعَلَ لَهُ مَالًا، قُلْنَا: هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّ الْخِطَابَ لِأُبَيِّ، فَإِنَّهَا كَمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ﵁
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute