وَكَذَا النَّاسُ يُعَامِلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ تَبَعًا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةُ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ عِلْمِ الْعَوَامّ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه تَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى. قَالَ (فَتَجُوزُ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْكَبِيرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي،
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصْمِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي التِّجَارَاتِ عَنْ صَالِحِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «ثَلَاثٌ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ: بَيْعٌ إلَى أَجْلٍ، وَالْمُقَارَضَةُ، وَإِخْلَاطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ لَا لِلْبَيْعِ».
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ ابْنِ مَاجَهْ: الْمُفَاوَضَةُ بَدَلُ الْمُقَارَضَةِ، وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ، وَضَبْطُهُ الْمُعَارَضَةُ بِالْعَيْنِ وَالضَّادِ وَفَسَّرَهَا بِبَيْعِ عَرَضٍ بِعَرَضٍ مِثْلِهِ (وَالْآخَرُ) مَا ذَكَرَهُ مِنْ (أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ) لِأَنَّ التَّعَامُلَ كَالْإِجْمَاعِ وَلَوْ مَنَعَ ظُهُورَ التَّعَامُلِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمُسَاوَاةِ فِي جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ كُلٌّ مِنْ النُّقُودِ بَلْ عَلَى شَرْطِ التَّفْوِيضِ الْعَامِّ كَمَا عَنْ مَالِكٍ أَمْكَنَ.
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ الْقِيَاسِ فَقَالَ (الْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ) لِأَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ (تَبَعًا) وَالتَّصَرُّفُ قَدْ يَصِحُّ تَبَعًا وَلَا يَصِحُّ مَقْصُودًا (كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ) فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ بِشِرَاءِ مَجْهُولِ الْجِنْسِ، وَكَذَا شِرْكَةُ الْعِنَانِ فَلَا يَتِمُّ الْإِلْزَامُ، وَانْتَظَمَ الْكَلَامُ الْكُلِّيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمِّلَةٌ تَبَعًا الْجَوَاب عَنْ إلْزَامِ الْكَفَالَةِ لِمَجْهُولٍ، وَفَصَّلَ الْجَوَابَ فِيهَا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: وَأَمَّا الْجَهَالَةُ فَعَيْنُهَا لَا تُبْطِلُ الْكَفَالَةَ وَلَكِنْ تُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ بِسَبَبِهَا، وَهُوَ مُنْعَدِمٌ هُنَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ مَا لَزِمَهُ بِتِجَارَتِهِ، وَعِنْدَ اللُّزُومِ الْمَضْمُون لَهُ وَالْمَضْمُونُ بِهِ مَعْلُومٌ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ لِمَجْهُولٍ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ عِنْدَ اللُّزُومِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَاكْتَفَى بِنَفْيِ الْإِلْزَامِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِحُّ تَبَعًا لَا قَصْدًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِم صِحَّةِ الْكَفَالَةِ كَذَلِكَ قَصْدًا عَدَمُ صِحَّتِهَا ضِمْنًا، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ صِحَّتِهَا شَرْعًا أَخْذًا مِنْ هَذَا الْجَوَابِ، هَكَذَا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ لَا مَانِعَ فِيهِ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ صِحَّتُهُ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ الْوَكَالَةُ بِمَجْهُولٍ وَالْكَفَالَةُ بِمَجْهُولٍ يَمْنَعُ إذَا ثَبَتَ قَصْدًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ الشَّيْءِ إذَا ثَبَتَ قَصْدًا مَنْعُهُ إذَا ثَبَتَ ضِمْنًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ؟ قُلْنَا: هَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى مُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشِّرْكَةَ فِي صُورَةٍ يَكُونُ الشَّرِيكَانِ مُتَسَاوِيَيْ الْمَالَيْنِ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ عَلَى الْعُمُومِ جَائِزَةٌ بِلَا مَانِعٍ كَمَا فِي صُورَةِ عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا.
فَقُلْنَا: إنْ عَقَدَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ سَمَّيْنَا الشِّرْكَةَ مُفَاوَضَةً وَإِلَّا سَمَّيْنَاهَا عِنَانًا، غَيْرَ أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ فِي ثُبُوتِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ لِجَعْلِنَا إيَّاهُ عِلْمًا عَلَى تَمَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَمْرِ الشِّرْكَةِ، فَإِذَا ذَكَرَاهَا تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا إقَامَةً لِلَّفْظِ مَقَامَ الْمَعْنَى، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرَاهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ رِضَاهُمَا بِأَحْكَامِهَا إلَّا أَنْ يَذْكُرَا تَمَامَ مَعْنَاهَا، بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: وَهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ بَالِغَانِ أَوْ ذِمِّيَّانِ شَارَكْتُك فِي جَمِيعِ مَا أَمْلِكُ مِنْ نَقْدٍ وَقَدْرُ مَا تَمْلِكُ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ الْعَامِّ مِنْ كُلٍّ مِنَّا لِلْآخَرِ فِي التِّجَارَاتِ وَالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ، وَعَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَّا ضَامِنٌ عَلَى الْآخَرِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ أَمْرِ كُلِّ بَيْعٍ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَتَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ فَهْمِ الْعَوَامّ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى) وَاللَّفْظُ وَسِيلَةٌ إلَى إفْهَامِهِ، وَلَوْ عَقَدَا بِلَفْظِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute