قَالَ (فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَا يَجُوز إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ) لِقَوْلِهِ ﵊ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» الْحَدِيثَ. وَقَالَ ﵊ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ. .
فِي ذِكْرِهِ ﷺ لِأَمْرِ الْمَدِينَةِ «مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» الصَّرْفُ: التَّوْبَةُ لِأَنَّهُ صَرْفُ النَّفْسِ عَنْ الْفُجُورِ إلَى الْبِرِّ. وَالْعَدْلُ: الْفِدْيَةُ مِنْ الْمُعَادَلَةِ وَالْفِدَاءِ يُعَادِلُ نَفْسَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ إحْدَاثِ الْحَدَثِ فِعْلُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْجَمْهَرَةِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: الصَّرْفُ الْفَرِيضَةُ، وَالْعَدْلُ النَّافِلَةُ.
وَفِي الْغَرِيبَيْنِ عَنْ بَعْضِهِمْ: الصَّرْفُ النَّافِلَةُ وَالْعَدْلُ الْفَرِيضَةُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَا اعْتِرَاضَ مَعَ أَنَّهُ الْأَنْسَبُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْوَالَ تَنْقَسِمُ إلَى ثَمَنِ كُلِّ حَالٍ وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ جِنْسِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلَى مَا هُوَ مَبِيعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ مَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ مِنْ الْعُرُوضِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِلَى مَا هُوَ ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ مَبِيعٍ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ، فَإِنَّهَا إذَا عُيِّنَتْ فِي الْعَقْدِ كَانَتْ مَبِيعَةً؛ وَإِنْ لَمْ تُعَيَّنْ، فَإِنْ صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ وَقَابَلَهَا مَبِيعٌ فَهِيَ ثَمَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهَا حَرْفُ الْبَاءِ وَلَمْ يُقَابِلْهَا ثَمَنٌ فَهِيَ مَبِيعَةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ الثَّمَنُ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ وَالنُّقُودُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إلَّا دَيْنًا خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَعِنْدَهُمْ يَتَعَيَّنُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ إذَا عُيِّنَتْ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ الْمُعَيَّنَةُ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَلَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهَا. هَذَا تَقْسِيمُ الْمَالِ بِاعْتِبَارِهِ فِي نَفْسِهِ، وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى الثَّمِينَةِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ سِلْعَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ رَائِجَةً فَهِيَ ثَمَنٌ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً فَهِيَ سِلْعَةٌ كَالْفُلُوسِ.
(قَوْلُهُ فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) يَعْنِي فِي الْعِلْمِ لَا بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ فَقَطْ (وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالصِّيَاغَةِ) فَيَدْخُلُ الْإِنَاءُ بِالْإِنَاءِ، فَلَوْ بَاعَاهُمَا مُجَازَفَةً وَلَمْ يَعْلَمَا كَمِّيَّتَهُمَا وَكَانَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُتَسَاوِيَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ وَزْنًا فِي الْمَجْلِسِ فَظَهَرَا مُتَسَاوِيَيْنِ يَجُوزُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ وُزِنًا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ خِلَافًا لِزُفَرَ. هُوَ يَقُولُ: الشَّرْطُ التَّسَاوِي وَقَدْ ثَبَتَ، وَاشْتِرَاطُ الْعِلْمِ بِهِ زِيَادَةٌ بِلَا دَلِيلٍ. قُلْنَا: بَلْ هُوَ شَرْطٌ بِدَلِيلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَوْهُومَ فِي هَذَا الْعَقْدِ جُعِلَ كَالْمَعْلُومِ شَرْعًا، وَمَا لَمْ تُعْلَمْ الْمُسَاوَاةُ تَوَهُّمُ الزِّيَادَةِ حَاصِلٌ فَيَكُونُ كَثُبُوتِ حَقِيقَةِ الزِّيَادَةِ؛ وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَجُوزَ إذَا وُزِنَ فِي الْمَجْلِسِ فَظَهَرَ مُتَسَاوِيًا أَيْضًا، لَكِنْ جَازَ فِي الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ كَأَنَّ الْعَقْدَ أُنْشِئَ الْآنَ؛ لِأَنَّ سَاعَاتِهِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَزْنًا مَعْلُومًا فَلِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُسَاوَاةِ كَيْلًا، إذْ الْمُسَاوَاةُ وَزْنًا تَسْتَلْزِمُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكَيْلِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيمَا كَانَ مَكِيلًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ التَّقْدِيرُ بِالْكَيْلِ عَلَى مَا سَلَفَ.
وَعَنْ هَذَا إذَا اقْتَسَمَا مَكِيلًا مُوَازَنَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ كَالْبَيْعِ. وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ (بِقَوْلِهِ ﷺ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ انْتِصَابِهِ أَنَّهُ بِالْعَامِلِ الْمُقَدَّرِ: أَيْ بِيعُوا، وَالْأَوْلَى حَيْثُ كَانَ الذَّهَبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute