قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالنِّكَاحَ وَالدُّخُولَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ
فِي صَكٍّ فَأَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ عُدْوَانًا فَكَتَبَ رَجُلٌ مِثْلَهُ ثُمَّ عَرَضَهُ عَلَى ذَلِكَ الْكَاتِبِ فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ خَطُّهُ.
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّكُّ فِي يَدِ الشَّاهِدِ تَرَكَهُ الطَّالِبُ فِي يَدِهِ مُنْذُ كَتَبَهُ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَادِثَةَ. وَبِهَذَا أَجَابَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ حِين كَتَبَ إلَيْهِ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى فِيمَنْ نَسِيَ شَهَادَتَهُ وَوَجَدَ خَطَّهُ وَعَرَفَهُ هَلْ يَسْعَهُ أَنْ يَشْهَدَ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْخَطُّ فِي حِرْزِهِ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ.
وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ شَهِدُوا عَلَى صَكٍّ فَقَالُوا نَعْرِفُ أَنَّ هَذَا خَطُّنَا وَخَوَاتِيمُنَا لَكِنْ لَا نَذْكُرُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يُنْفِذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَنْفَذَهُ قَاضٍ غَيْرُهُ ثُمَّ اخْتَصَمُوا إلَيْهِ فِيهِ أَنْفَذَهُ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْقُضَاةُ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ لِلْقَاضِي أَنِّي أَشْهَدُ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ لِلْحَادِثَةِ بَلْ لِمَعْرِفَةِ خَطِّي لَمْ تُقْبَلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكِ خِلَافًا.
وَلَوْ نَسِيَ قَضَاءَهُ وَلَا سِجِلَّ عِنْدَهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّك قَضَيْت بِكَذَا لِهَذَا عَلَى هَذَا، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ، وَقِيلَ وَأَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَمَدُ وَيَقْضِي بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَعَلَى هَذَا لَوْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ حَدِيثًا ثُمَّ نَسِيَ الْأَصْلُ رِوَايَتَهُ لِلْفَرْعِ ثُمَّ سَمِعَ الْفَرْعَ يَرْوِيهِ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْمَلُ بِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْمَسَائِلُ الَّتِي رَوَاهَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ وَنَسِيَهَا أَبُو يُوسُفَ وَهِيَ سِتٌّ فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ ﵀ لَا يَعْتَمِدُ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ لَهَا عَنْهُ، وَمُحَمَّدٌ كَانَ لَا يَدَعُ رِوَايَتَهَا عَنْهُ، كَذَا قَالُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ فِي تَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ السِّتِّ إشْكَالًا، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَنْكَرَ وَقَالَ مَا رَوَيْت لَك عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ فِيمَا إذَا صَلَّى أَرْبَعًا وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ أَرْبَعٍ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا رَوَيْت لَك إلَّا رَكْعَتَيْنِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَيْسَتْ مِنْ صُوَرِ نِسْيَانِ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ، بَلْ مِنْ صُوَرِ تَكْذِيبِ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ كَمَا يُعْرَفُ فِي الْأُصُولِ، وَلَا خِلَافَ يُحْفَظُ فِيهِ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّ رِوَايَةَ الْفَرْعِ تُرَدُّ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَسِيَ الْأَصْلُ وَلَمْ يَجْزِمْ بِالْإِنْكَارِ فَلَا يَنْبَغِي اعْتِبَارُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ﵀.
نَعَمْ إذَا صَحَّ اعْتِبَارُ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُ تَخْرِيجًا عَلَى أُصُولِ أَبِي حَنِيفَة يُمْكِنُ
(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ) أَيْ لَمْ يَقْطَعْ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَايَنَةِ بِالْعَيْنِ أَوْ السَّمَاعِ إلَّا فِي النَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالنِّكَاحِ وَالدُّخُولِ وَوِلَايَةِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْإِخْبَارِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَفِي الْمَوْتِ إذَا قُلْنَا يَكْفِي الْوَاحِدُ لَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ يَكْتَفِي بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ عَدْلٍ أَوْ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ، فَإِذَا رَآهُ وَاحِدٌ عَدْلٌ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ وَهُوَ عَدْلٌ أَخْبَرَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَشْهَدَانِ بِمَوْتِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الْمُخْبِرُ أَنَّهُ شَهِدَ مَوْتَهُ أَوْ جِنَازَتَهُ أَوْ دَفْنَهُ حَتَّى يَشْهَدَ الْآخَرُ مَعَهُ، وَكَذَا لَوْ جَاءَ خَبَرَ مَوْتِ رَجُلٍ وَصَنَعَ أَهْلُهُ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى لَمْ يَسَعْ لِأَحَدٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute