تُقْبَلُ إذَا تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا﴾ اسْتَثْنَى التَّائِبَ. قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيه وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
يَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ أَوْ إلَى الْأَخِيرَةِ؟ عِنْدَنَا إلَى الْأَخِيرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ثَلَاثُ جُمَلٍ هِيَ قَوْله تَعَالَى ﴿فَاجْلِدُوهُمْ﴾، ﴿وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ وَالظَّاهِرُ مِنْ عَطْفِ " وَلَا تَقْبَلُوا " أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْحَدِّ لِلْعَطْفِ مَعَ الْمُنَاسَبَةِ وَقَيْدِ التَّأْبِيدِ.
أَمَّا الْمُنَاسَبَةُ فَلِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ مُؤْلِمٌ لِقَلْبِهِ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِ لِسَانِهِ كَمَا أَنَّهُ آلَمَ قَلْبَ الْمَقْذُوفِ بِسَبَبِ فِعْلِ لِسَانِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ ﷺ «جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْحَدَّ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَصْلُحُ مَانِعًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّغْرِيبُ سَبَبُ لِزِيَادَةِ الْوُقُوعُ لِأَنَّهُ لِغُرْبَتِهِ وَعَدَمِ مَنْ يَعْرِفُهُ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ أَحَدٍ يُرَاقِبُهُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ لَهُ دَاعِيَةَ الزِّنَا أَوْسَعَ فِيهِ، وَكَذَا قَيْدُ التَّأْبِيدِ لَا فَائِدَةَ لَهُ إلَّا تَأْيِيدُ الرَّدِّ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً. ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَعْلِيلِ عَدَمِ الْقَبُولِ.
ثُمَّ اسْتَثْنَى الَّذِينَ تَابُوا، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَيْسَ إلَّا لِلْفِسْقِ وَيَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّأْبِيدِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَبُولِ بِالتَّوْبَةِ. وَأَمَّا رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْكُلِّ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحَارَبِينَ ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا﴾ إلَى قَوْله تَعَالَى ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ حَتَّى سَقَطَ عَنْهُمْ الْحَدُّ فَلِدَلِيلٍ اقْتَضَاهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ فَإِنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى الْأَخِيرَةِ: أَعْنِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ فَائِدَةٌ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْعَذَابَ.
فَفَائِدَةُ قَوْله تَعَالَى ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ لَيْسَ إلَّا سُقُوطُ الْحَدِّ، وَهَذَا لِأَنَّا إنَّمَا نَقُولُ بِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ دَلِيلِ عَوْدِهِ إلَى الْكُلِّ، فَأَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِهِ عَادَ إلَيْهَا كَمَا يَقُولُ هُوَ إنَّ عَوْدَهُ إلَى الْكُلِّ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ دَلِيلِ عَوْدِهِ إلَى الْأَخِيرَةِ فَقَطْ وَلَوْ اقْتَرَنَ بِهِ عَادَ إلَيْهَا فَقَطْ، وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِمَا يُوجِبُ أَنَّ الرَّدَّ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ فَكَانَ قِيَاسًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ.
لَا يُقَالُ: رَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ يَنْفِي الْفَائِدَةَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ شَرْعًا أَنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ الْفِسْقَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّا نَقُولُ: كَوْنُ التَّوْبَةِ تُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يُعْرَفُ عَقْلًا بَلْ سَمْعًا، وَذَلِكَ بِإِيرَادِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَهَذَا مِنْهُ، وَكَوْنُ آيَةٍ أُخْرَى تُفِيدُهُ لَا يَضُرُّ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ طَرِيقَ الْقُرْآنِ تَكْرَارُ الدَّوَالِّ خُصُوصًا إذَا كَانَ مَطْلُوبُ التَّأْكِيدِ ﴿كَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ وَقَدْ تَكَرَّرَ قَوْله تَعَالَى ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا﴾ لِذَلِكَ الْغَرَضِ، فَفِي آيَةِ ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا﴾ إلَى قَوْلِهِ ﴿فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
وَفِي أُخْرَى ﴿إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ﴾ إلَى قَوْله تَعَالَى ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾ وَفِي أُخْرَى ﴿إِلا مَنْ تَابَ﴾ إلَى قَوْله تَعَالَى ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ وَمَوَاضِعُ أُخْرَى عَدِيدَةٌ، وَلَمْ يُسْمَعْ أَنْ يُقَالَ فِي أَحَدِهَا قَدْ عُرِفَ هَذَا بِآيَةٍ أُخْرَى فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا إلَّا مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا مِنْهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعِبَادِ لِيُؤَكِّدَ هَذَا الْمَعْنَى، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَعَسَى أَنْ لَا يَسْمَعَهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَإِذَا تَعَدَّدَتْ مَوَاضِعُهُ فَمَنْ لَمْ L
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute