(وَلَوْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ رَتَّبَهَا فِي الْقَضَاءِ كَمَا وَجَبَتْ فِي الْأَصْلِ) «لِأَنَّ النَّبِيَّ ﵊ شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ مُرَتِّبًا، ثُمَّ قَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»
الدَّلِيلَيْنِ فِي غَيْرِ مُلْجِئٍ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِهِ وَقْتًا لِلْوَقْتِيَّةِ إذْ جَعَلَ وَقْتًا لِلْفَائِتَةِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، إذْ لَا مَانِعَ مِنْ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا وَقْتًا لَهُمَا بِحَيْثُ يَصِحُّ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيهِ كَالصَّلَوَاتِ مِنْ الْفَرِيضَةِ وَالْمَنْذُورَةِ وَالنَّافِلَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى غَيْرِ الْمَعْلُومِ مِنْ كَوْنِ وَقْتِ التَّذَكُّرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِهَا حَتَّى يَكُونَ الْأَدَاءُ فِيهِ خَالِيًا عَنْ الْإِثْمِ لِغَرَضِ كَوْنِ التَّأْخِيرِ لِلنَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّ الْوَقْتَ لِلْوَقْتِيَّةِ أَيْضًا، نَعَمْ لَوْ عَلَّلُوا انْفِرَادَ الْفَائِتَةِ بِالْوَقْتِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» لَأَمْكَنَ، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى فِيهِ مَا قُلْنَاهُ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ فِي تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ
(قَوْلُهُ ثُمَّ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي») لَيْسَ مِنْ تَمَامِ مَا اتَّصَلَ بِهِ بَلْ هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِمَجْمُوعِ فِعْلِهِ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَأَمْرُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ فَلَزِمَ التَّرْتِيبُ، وَلَوْ قَالَهُ بِالْوَاوِ لَكَانَ أَقَلَّ إيهَامًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ لَيْسَ عَلَى صِرَافَةِ ظَاهِرِهِ مِنْ إيجَابِ كُلِّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ رُؤْيَتُهُمْ مِنْ صَلَاتِهِ فَإِنَّهَا وَقَعَتْ عَلَى مَا هُوَ مِنْ السُّنَنِ وَالْآدَابِ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً فَهُوَ عَلَى النَّدْبِ إنْ اُعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْمُرَادَةُ أَوْ عَلَى الْإِيجَابِ إنْ اُعْتُبِرَتْ غَيْرُهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ فَرْعُ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ كَوْنَ هَذَا التَّرْتِيبِ وَاجِبًا عَيْنُ النِّزَاعِ وَصَلُّوا إلَى آخِرِهِ إيجَابُ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَأَوْهُ فَعَلَهَا فَلَا يُقَدَّمُ السُّجُودُ عَلَى الرُّكُوعِ وَلَا يُقْرَأُ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ.
وَحَاصِلُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَعْيِينُ الْكَيْفِيَّاتِ الْوَاجِبَةِ أَنْ تُغَيَّرَ، وَذَلِكَ فَرْعُ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ أَوَّلًا. وَغَايَةُ مَا يُدْفَعُ بِهِ هَذَا أَنْ يُقَالَ هُوَ مُفِيدٌ وُجُوبَ كُلِّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الرُّؤْيَةُ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ كَوْنِهِ سُنَّةً أَوْ أَدَبًا، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ التَّرْتِيبُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ اسْتِلْزَامِ تَقْدِيمِ الظَّنِّيِّ عَلَى الْقَاطِعِ بِتَقْدِيرِ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ، ثُمَّ الْحَدِيثُ الثَّانِي هُوَ ذَيْلُ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ فِي الْبُخَارِيِّ وَتَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «إنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى ذَهَبَ مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ، إلَّا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ: يَعْنِي فَهُوَ مُنْقَطِعٌ.
وَقَوْلُ الشَّيْخِ مُحَيِّي الدِّينِ النَّوَوِيِّ فِي الْخُلَاصَةِ لَمْ يُدْرِكْ أَبَاهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ أَبِي دَاوُد تُوُفِّيَ وَلِوَلَدِهِ أَبِي عُبَيْدَةَ سَبْعُ سِنِينَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ عَنْ الْخُدْرِيِّ «حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ حَتَّى كُفِينَا ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ. ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ ﴿فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا﴾» وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ وَالثَّلَاثِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْعِشَاءَ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْتِهَا، وَذَكَرَهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِاعْتِبَارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute