الْكَتِفَيْنِ كَالْمُبَارِزِ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَذَلِكَ مَعَ الِاضْطِبَاعِ. وَكَانَ سَبَبُهُ إظْهَارَ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكَيْنِ حِينَ قَالُوا: أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنَ النَّبِيُّ ﵊ وَبَعْدَهُ. قَالَ (وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي عَلَى هَيِّنَتِهِ) عَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ ﵊ (وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ) هُوَ الْمَنْقُولُ مِنْ رَمَلِ النَّبِيِّ ﵊ (فَإِنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فِي الرَّمَلِ قَامَ. فَإِذَا وَجَدَ مَسْلَكًا رَمَلَ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ
طَهَارَتُهُ مِنْهُ. وَيُجَابُ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ عَنْ الشُّغْلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ إلَّا بِالْقَطْعِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ طَرِيقٌ لِلْقَطْعِ يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ ضَرُورَةً كَحَالِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يُتَيَقَّنُ بِطَهَارَتِهِ إلَّا حَالَ نُزُولِهِ مِنْ السَّمَاءِ.
وَكَوْنِهِ فِي الْبَحْرِ وَمَا لَهُ حُكْمُهُ، وَلَيْسَ يَتَمَكَّنُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ فِي كُلِّ تَطْهِيرٍ بِخِلَافِ التَّوْجِيهِ وَالتَّيَمُّمِ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ
(قَوْلُهُ وَكَانَ سَبَبُهُ إلَخْ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵃ قَالَ «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إنَّهُ يَقْدَمُ غَدًا عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ الْحُمَّى، وَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً. فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ. فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ. وَيَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ هُمْ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إلَّا الْإِبْقَاءَ عَلَيْهِمْ اهـ. وَيَعْنِي بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّ وَالْأَسْوَدَ كَمَا فِي أَبِي دَاوُد «كَانُوا إذَا بَلَغُوا الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَتَغَيَّبُوا عَنْ قُرَيْشٍ مَشَوْا ثُمَّ يَطْلُعُونَ عَلَيْهِمْ فَيَرْمُلُونَ يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ كَأَنَّهُمْ الْغِزْلَانُ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَتْ سُنَّةً.
فَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ إلَى أَنَّهُ لَا رَمَلَ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ إلَى أَنَّهُ لَا رَمَلَ أَصْلًا. وَنَقَلَهُ الْكَرْمَانِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: «قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ رَمَلَ بِالْبَيْتِ وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قُلْتُ: مَا صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: صَدَقُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ رَمَلَ، وَكَذَبُوا لَيْسَ سُنَّةً. إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنْ الْهُزَالِ. وَكَانُوا يَحْسُدُونَهُ فَأَمَرَهُمْ ﵊ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا وَيَمْشُوا أَرْبَعًا»
فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى خِلَافِ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَعْدَهُ، وَبِقَوْلِهِ " وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ هُوَ الْمَنْقُولُ " أَمَّا أَنَّهُ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنِهِ ﵊ وَبَعْدَهُ فَلِحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ «أَنَّهُ رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَا لَنَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute