للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تعدى هذه المنزلة أخذ يتطلب الأدلة لرأيه، فيجمع كل ما يظن فيه دلالة بدون تصحيح ولا تنقيح ولا نظر في الأدلة المعارضة له. فإن جاوز هذه الدرجة تصفَّح أدلة مخالفيه وانتقى منها ما يسهل عليه تأويله، وأعرض عن الباقي. فإن ترقى عن هذه المرتبة جَهَدَ نفسه في الكلام على ما يجده لمخالفه من الأدلة، وإن اضطر إلى التعسف والتحريف ومخالفة القواعد القطعية.

فأما من لم يكن له علم راسخ بالقواعد وما أكثرهم في المتكلمين في مسألتنا وغيرها في القرون الأخيرة فهو أقرب إلى العذر عند الناس، وعُظْمُ اللوم على من صدَّره ونحله العلم والإمامة بغير استحقاق. ولكننا نجد أفرادًا لا يُؤْتَون مِنْ جهلٍ بالقواعد وإنما يُؤْتَونَ من مخالفتها، والله المستعان.

وأريد بالقواعد ما تشتمل عليه علوم الاجتهاد. فلا ينبغي للعاقل أن يزجَّ بنفسه في بحر الاستدلال حتى يجمع أمورًا:

الأوَّل: إتقانُ [٩٣] العربية وطولُ ممارستها؛ فإننا نجد من علماء العجم من يغلط في فهم آية أو حديث غلطًا لا نشك فيه. ومع ذلك يصعب علينا أن نقنعه بقاعدة معيَّنة من القواعد المذكورة في كتب النحو وغيرها، وما ذلك إلا لأنه قد بقي من قواعد فهم اللغة ما لا يُعْرَف إلا بالممارسة التامة وتربية الذوق الصادق، بل إن القواعد المبسوطة المحرَّرة لا يُسْتَطاع تطبيقُ أكثرها بدون ممارسةٍ وحسن ذوق. وليس هذا خاصًّا بعلم العربية، بل الأمر كذلك في بقية العلوم، ألا ترى أن من الأئمة المجتهدين من يحتجُّ بالاستحسان وفسَّروه بدليل ينقدح في نفس المجتهد ولا يستطيع التعبير عنه. ونحو هذا يقول أئمة الحديث في معرفة علل الحديث حتى قال الإمام