وعلى هذا البرهان تشكيكاتٌ ترجع إلى التحيُّر في وجه لزوم الاختلاف على سبيل القطع؛ لأنه لِمَ لا يجوز اتفاق الآلهة؟ كيف والمفروض أنهم كاملون في العلم والحكمة، والعدل والرحمة، والأمورُ التي تقتضيها هذه الصفات لا يُتَصَوَّرُ اختلافُها؟
والجواب: أن هذا البرهان مَسُوقٌ في مقابلة الأمم التي تَدَّعِي للروحانيين تدبيرًا كما مرَّ، وسياق الآيات واضح في ذلك. وهذه الأمم كما يُعْلَم [١٣١] من ديانة اليونان والهند وغيرهم تثبت للروحانيين الاختلاف بينهم والنزاع وعدم إحاطة العلم، بل لا تكاد تميزهم عن البشر إلا بأنهم أعظم قدرةً، فثبت بذلك لزوم الفساد قطعًا. بل وثبت لزوم الفساد من جهةٍ أخرى، وهي: أن الصفات التي تثبتها تلك الأمم للروحانيين لا تكفي لإتقان تدبير العالم على مقتضى العدل والحكمة، فلو كان واحدٌ منهم فقط هو المدبر باختياره لفسد العالم، وهكذا لو كان واحد منهم يدبر العالم مع الله تعالى والله تعالى مُطْلِقٌ له العنان يفعل ما يشاء ويهوى، فإن تدبير الله تعالى يقتضي الإحكام وإتقان النظام, وتدبير ذلك الروحاني يقتضي الفساد على ما علمت, فيصبح العالَمُ كما قال عَبِيد بن الأبرص:
عيُّوا بأمرهم كما ... عيَّتْ ببيضتها الحمامه
جعلت لها عودين من ... نَشَمٍ وآخر مِنْ ثمامه (١)
[١٣٢] ولعله قد تبيَّن بهذا معنى قوله تعالى: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ