للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

للإنسان عذر بعده ولو ألقى معاذيره، فتدبَّر.

ألا ترى أن مشركي مكة كانوا يذعنون بانصرام سلسلة الوجود إلى الله تعالى كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: ٢٥]، وما أغناهم ذلك عن الإشراك بالله. وربما قرع سَمْعَكَ فيما يُسرد من الأخبار أنَّ العلم سيرفع بين يدي القيامة فيتمارى رجلان، يقول أحدهما: إيَّاك ستين، ويقول الآخر: إياك سبعين، فيرفعان القضية إلى أعلمهم فيقول: إياك تسعين! (١). وأقسم بالذي نفسي بيده إنه قد وقع في آيات أُخر، فلستُ أرى أحدًا إلَّا وفيه الإشراك، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: ١٠٥].

وكفَّر الله سبحانه مشركي مكة بقولهم لرجل سخيٍّ كان يلُتُّ السويق للحاجِّ: إنه نُصب [منصب] الألوهية، فجعلوا يستعينون به عند الشدائد ... » (ذكر حديث عدي بن حاتم (٢)).

ثم قال: «فقد علمنا أن الشرك ليس بمحصور في العبادة بل قد يكون بهذا النحو. ولعلَّ رجلًا عريض القفا يقول: وكيف يكون هذا وما سمعنا رجلًا يقول بذلك؟ فنقول له: اعلم أنَّ التحريف ليس هو [٥٨٠] اعتياض لفظ مكان لفظ، كما وقف عليه فهوم العامَّة، بل شأن التحريف أَهْوَلُ من ذلك، وأكثر أنواعه وجودًا أن يقلب اللفظ عن ظاهر مراده إلى هواه وهواجس نفسه، فقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أنَّه سيوجد رجال يسمُّون الخمر بغير اسمها


(١) يريد آية {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في الفاتحة, ولم يرد هذا الخبر في رواية يُعتد بها، وقد ذكر ابن الجوزي حكاية شبيهة في أخبار الحمقى والمغفلين ٨١.
(٢) في تأليه الأحبار والرهبان، وقد سبق تخريجه في ص ٦٥٤ - ٦٥٥.