للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

غير علمي هو غالبا شر من الصدق.

لنذكر المثل القديم السائر: الصبيان والمجانين يقولون الحقيقة دائما: والنتيجة المنطقية لذلك واضحة وهي: إن الكهول والعقلاء لا يقولون الحقيقة أبدا.

يقول المؤرخ (باركمان): من الحقائق الراسخة أن الحقيقة لا يحسن أن تقال دوما، وإن من يدفعهم ضميرهم المريض إلى مخالفة هذا المبدأ هم حمقاء خطرون، هذا هو الكلام المتزن المتين، فلا أحد يستطيع أن يعيش مع من اعتاد قول الصدق، والحمد لله على أن كائنا مثل هذا غير موجود، فالإنسان الذي يقول الصدق دائما هو مخلوق خيالي لم يوجد ولن يوجد، ولا شك أن هنالك أفرادا يعتقدون إنهم لا يكذبون قط، ولكنهم واهمون وإن جهلهم الفادح لما تخجل منه مدينتنا الحاضرة، كل الناس يكذب، في كل يوم وفي كل ساعة، نائما ومستيقظا، في الحزن وفي الفرح، وإذا لم ينطق اللسان فإن الأيدي والأرجل والعيون والوضع العام تحاول أن تخدع عن سابق تصميم وتعمد.

وبعد ماذا يأخذ النقاد الجادون الوقورون على التاريخ حتى تتنازعهم فيه الشكوك وتتجاذبهم فيه الظنون؟ إنهم يأخذون عليه أسسه التي يرتكز إليها ومادته التي يتكون منها وأسلوبه الذي يعتمد عليه ونتائجه التي يصل إليها. . . فهم إذن صناعا مهرة (يفبركون) الوثائق الأصلية. . . والمخطوطات النادرة. . . ويصفعون بها أنف التاريخ.

٣ - وما العمل إذا انعدمت الوثائق أو صمتت؟ ما الحيلة في معرفة تاريخ مالا تاريخ له؟. هنالك في سلسلة الحوادث التاريخية (حلقات مفقودة)، يعمد المؤرخون إلى إيجادها بالاجتهاد العقلي. فما هو نصيب هذا الاجتهاد الفرضي من الصحة؟ مثل المؤرخين في ذلك كمثل من لا يستطيع الوصول إلى مجاهل إفريقية الوسطى فيفرض أنها حلقة متممة لافريقية الشمالية والجنوبية ويتكهن عن أوصافها الطبيعية والبشرية بالاستناد إلى هذا الافتراض!. . وقد أثار الأستاذ حسن عثمان في كتابه (منهج البحث الاجتماعي) مسألة من هذا النوع وهي مسألة سكوت المصادر عن تنازل المتوكل العباسي عن الخلافة للسلطان العثماني سليم الأول عام ١٥١٧، وأقر بتعذر البت في هذا الأمر.

٤ - ولاختيار الحوادث في التاريخ مشكلة أشد إغفالا، ذلك إن المؤرخ يجد نفسه أمام حوادث لا حصر لها وكلها متشابكة متساندة، فلها جدير بالذكر؟ وما هي الأسس التي تفرق

<<  <  ج: ص:  >  >>