بين الحادث الهام والحادث التافه؟ وإذا كان كلام نثرا فكل عمل تاريخ، فهل على المؤرخ أن يسجل كل عمل؟ إنه لا شك ملزم بالاصطفاء والانتقاء، والأمر يعود أولا وآخراً إلى تقديره الشخصي، وكم من مؤرخ أخذ بالعظيم من الأمور وأهمل ما ظن إنه جزئي لا وزن له وكان الذي ظنه جزئيا لا وزن له بالغ الأثر خطير النتائج! قد يكون لهيئة الأمير أو الحاكم أو لبزته وهندامه أو لابتسامته وطلاقة محياه أثر في سياسته لا يعدله أثر بلائه أو درايته أو دهائه!.
وطالما في الأمر اصطفاه فقد خرج التاريخ عن أن يكون صورة للواقع واضحي تجريدا مصطنعا يضلل ولا يرشد ويشوه ولا ينور، وجميع الكتب المدرسية في التاريخ هي من هذا القبيل.
وشبيه بهذا تلك التقسيمات (الاعتباطية) التي جرى عليها المؤرخون والتي تجعل التاريخ مقسما مبوبا مرتبا كأن الحوادث وضعت للتاريخ لا التاريخ للحوادث، فنحن نقول مثلا: السياسة الاقتصادية للمأمون والتنظيمات الإدارية للمنصور كأن مثل هذه الأمور يمكن التفريق بينها، ونحن نقول: العصور الوسطى والعصور القديمة والعصور الحديثة فيظن القارئ إن جداراً حاجزاً حقيقا يفصل بينها، مع إن التاريخ تسلسل لا انقطاع فيه، ولو سلمنا جدلا بصحة هذه التقاسيم بالنسبة إلى أمة ما فهل يجوز أن تعمم على سائر الأمم؟ والاعتراض نفسه يرد عندما نقول مثلا تاريخ سورية أو مصر في عهد الأمويين أو تاريخ ألمانيا أو بلجيكا في القرون الأولى فهل كان لسورية ومصر أو ألمانيا أو بلجيكا كيان بارز مستقل حتى يمكن تمييزه وتحديده؟ وهل لا يتوهم القارئ عندما يقرأ اشتباه ذلك أن سورية اليوم هي سورية الأمس عينها؟.
ومثل هذا أيضا تلك التعابير الاصطلاحية التي نستعملها اليوم وندرك مدلولها الحقيقي دون عناء، ونستعيرها للماضي أيضا كان المفاهيم لا تتبدل، وكان ألفاظ الحكومة والوزارة والأمة والموازنة والموظف الخ. . . هي اصطلاحات أزلية الوجود! والأمر أغرب إذا لم يراع المؤرخ المصطلحات المجازية الخاصة بكل زمن فأخذ بحرفية النصوص وتقيد المدلول الحالي للألفاظ! وهل بوسعه دائما أن يراعي؟
٥ - ولعل قاصمة الحجج للطاعنين في التاريخ هي اعتماد المؤرخ على الأسباب القاهرة